تلوث المشافي اليمنية… إزهاق أرواح حديثي الولادة

يكشف هذا التحقيق الاستقصائي عن تفاقم وفيات حديثي الولادة في اليمن والتي تفوق المعدل العالمي بكثير، بسبب تلوث بيئة عمل المشافي وما تنتجه من أمراض معدية تقتل الخدج جراء إهمال معايير الوقاية من العدوى.

– تخوفت الأربعينية اليمنية أروى محمد من ولادة ابنها في مستشفى السبعين للأمومة والطفولة الحكومي بصنعاء، بعد ما نصحتها طبيبة النساء والتوليد التي تابعت حملها في ديسمبر/ كانون الأول 2020 باصطحاب المعقمات والقفازات والكمامات معها من أجل ضمان وضع طفل معافى من العدوى التي تحصد أرواح حديثي الولادة في اليمن، إذ توفي بين أعوام 2016 وحتى نهاية العام الماضي 4171 من حديثي الولادة في 3 مشاف حكومية، هي السبعين للأمومة والطفولة بالعاصمة (يتبع لوزارة الصحة في حكومة صنعاء الخاضعة للحوثيين)، والجمهوري واليمني السويدي للأمومة والطفولة وسط مدينة تعز الخاضعة للحكومة الشرعية، حسب توثيق معد التحقيق عبر البيانات المنشورة على موقع وزارة الصحة والسكان في صنعاء، والمستشفى الجمهوري، وتقرير “حالات الوفيات لقسم الخدج وحديثي الولادة للأعوام من 2016 حتى 2022″، الصادر عن المشفى اليمني السويدي.

ويبلغ معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة في اليمن 26 حالة وفاة لكل 1000 ولادة، وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي الذي بلغ 17 حالة وفاة لكل 1000 ولادة في عام 2019، بحسب ما تؤكده منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) على موقعها في سبتمبر/أيلول 2021.

لكن هذه المؤشرات تفاقمت مع نهاية ديسمبر 2022، إذ أكد الدكتور كبير حسن، مسؤول قسم الصحة في منظمة اليونيسف باليمن، أن اليمن تعد من الدول التي لديها أعلى معدلات وفيات أطفال في الشرق الأوسط، إذ يموت 60 طفلا من كل ألف ولادة، لأسباب تتعلق بالالتهابات والاختناق والعدوى والوقاية، وفق ما قاله في المؤتمر العلمي الطبي الثالث لأمراض حديثي الولادة، والذي عقد في صنعاء بتاريخ 28 ديسمبر الماضي ونشره موقع وزارة الصحة في حكومة صنعاء.

ويعترف الدكتور طه المتوكل، وزير الصحة العامة والسكان في حكومة صنعاء، بأن نسبة وفاة حديثي الولادة تشكل 50 بالمائة من إجمالي وفيات الأطفال لأسباب تتعلق بالأمراض التنفسية والإسهالات وغيرها، مؤكدا خلال المؤتمر العلمي الطبي الثالث أن 80 طفلا من حديثي الولادة يموتون يوميا.

بيئة عمل غير آمنة 

بلغ عدد وفيات حديثي الولادة في مستشفى السبعين بصنعاء 2277 طفلا من بين 12 ألفا و318 طفلا ولدوا خلال الفترة بين عام 2016 وحتى عام 2022، بحسب موقع وزارة الصحة والسكان في صنعاء، بينما “توفي في المشفى اليمني السويدي 23 مولودا مصابا بالتهابات الصدر من بين 788 وفاة وقعت لحديثي الولادة خلال الفترة منذ عام 2017 وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 2022″، بحسب تقرير “حالات الوفيات لقسم الخدج وحديثي الولادة للأعوام من 2016 حتى 2022”.

وفي المستشفى الجمهوري بمدينة تعز، بلغ عدد وفيات حديثي الولادة خلال الفترة بين عام 2017 وحتى ديسمبر الماضي 1106 حالات وفاة (يبلغ معدل الولادة شهريا بوحدة الأمومة بالمشفى 520 ولادة)، وفق ما تؤكده مسؤولة الإحصاء في المستشفى الجمهوري رفيدى جار الله والدكتورة أفراح حميد مسؤولة قسم الحضانات بالمشفى، والتي تشير إلى أن أغلب الوفيات لأطفال خدج عمرهم الحملي أقل من 30 أسبوعا وتقع بسبب عدم اكتمال الأعضاء وصعوبة تقبلهم للرضاعة وتعرضهم للعدوى والالتهابات التنفسية وصعوبة التنفس لعدم اكتمال الرئتين إلى جانب هبوط السكر والبرودة، وتقول لـ”العربي الجديد”: “أحيانا لا نستطيع تدفئة الطفل باستخدام بطانيات (أغطية) ليست نظيفة فنضطر لرفع درجة حرارة الحاضنة”.

ويتطابق ما سبق مع ما يجري في 4 مشاف بمدينة إب، وسط اليمن، إذ تتسم بـ”ضعف في المتابعة والإشراف على وظائف غسيل البياضات الكتانية (أغطية الأسرة وملابس المرضى) من قبل إدارة مكافحة العدوى، بالإضافة إلى قصور في خطوات جمعها وتنظيفها وتعقيمها وتوزيعها، وهذا من شأنه أن يزيد من احتمالات انتشار وتفشي العدوى”، بحسب دراسة “أثر تطبيق معايير إدارة النفايات الطبية في الحد من العدوى والسيطرة عليها في مستشفيات مدينة إب”، والتي أجراها الباحث يحيى علي محمد بريه في عام 2020 لنيل الماجستير من الأكاديمية اليمنية للدراسات العليا التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

ولا توجد نظافة كافية في حمامات المشافي، فضلا عن التخلص غير الآمن من النفايات الطبية، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر تصوير في المستشفى الجمهوري بمدينة تعز. ويقر يوسف راجح مسؤول المخازن بالمشفى، أن “النظافة شبه معدومة، كون المشفي يعتمد على شركات نظافة همها الأساسي الربح”، معيدا أسباب عدم الالتزام بمعايير الوقاية من العدوى إلى عدم توفر المستلزمات الطبية، ويقول لـ”العربي الجديد” :”نفتقر منذ سنة لأبسط مواد النظافة وأبلغت مندوب منظمة الصحة العالمية بأننا بحاجة ماسة إلى أحذية طبية خاصة للعناية المركزة والعمليات، ولم تصلنا منذ ذلك الحين”، مضيفا أن آخر مستلزمات نظافة وصلت المستشفى قبل سنة، وسلمت لشركة النظافة ولم تسلم لمخازن المستشفى ولا ندري أين ذهبت ؟!.

ويؤكد الدكتور عبد القوي درهم المخلافي، استشاري أمراض الأطفال في المستشفى اليمني السويدي، لـ”العربي الجديد”، أن التعقيم ليس كما يجب والطاقم الطبي المسؤول عن تقديم خدمات المعالجة والرعاية لحديثي الولادة لا يلتزم أفراده بقواعد النظافة، مثل غسل اليدين بالماء والصابون أو تعقيمهما عقب استخدام الحمام أو تغيير الحفاظات المتسخة أو أداء عمل تمريضي لكل طفل مولود قبل الانتقال لمولود آخر، إضافة إلى عدم الالتزام باستخدام الكمامات الواقية من انتشار العدوى عن طريق الرذاذ المتطاير أثناء الكلام أو العطس والسعال.

ويثبت التقرير الخاص بتقييم البنية الأساسية لمستشفى البريهي الدولي (خاص)، والذي أعدته لجنة تقييم المستشفيات الخاصة بمكتب وزارة الصحة العامة والسكان التابعة للحكومة الشرعية في تعز بتاريخ التاسع من يوليو/تموز 2018 “تدني مستوى النظافة العامة وضعف في تمديدات بعض الحمامات وعدم تزويدها بالصابون، وعدم وجود مغسلة مزودة بالمطهرات في بعض غرف المستشفى، مع إمكانية تعرض خزان المياه الأرضي للتلوث لعدم تغطيته جيدا، وعدم وجود لجنة خاصة بإدارة ومعالجة النفايات والمخلفات الطبية وكذلك مكافحة العدوى، وعدم ملاءمة ومطابقة غرفة تجميع النفايات والمخلفات الطبية مع معظم الشروط والمعايير الفنية، إضافة إلى عدم تدريب الكوادر وعمال النظافة على نظام مكافحة العدوى والتخلص الآمن من النفايات والمخلفات الطبية والسلامة المهنية”.

كيف تحدث العدوى في المستشفيات؟ 

“من الأمراض الناجمة عن التعرض للنفايات الطبية التي لم يتم التخلص منها بشكل آمن عدوى الجهاز التنفسي وعدوى الجهاز الهضمي والعدوى الجلدية (المكورات العنقودية) والتهاب السحايا”، بحسب ما تؤكده دراسة “أثر تطبيق معايير إدارة النفايات الطبية في الحد من العدوى والسيطرة عليها في مستشفيات مدينة إب”.

وتنتقل العدوى من بيئة المشافي إلى حديثي الولادة، بسبب بكتيريا مقاومة لمعظم المضادات الحيوية المستخدمة في اليمن، مثل بكتيريا MRSA (المقيمون في المشافي من بين الفئات الأكثر عرضة للإصابة بها)، والتي تقاوم الميثيسيلين (مضاد حيوي ينتمي إلى عائلة البنسلين)، حسب الدكتور المخلافي.

وتنتقل العدوى إلى حديثي الولادة من خلال قسطرة البول وأجهزة التنفس الصناعي والبراز الملوث، كما تنتقل مباشرة من شخص إلى آخر أو من فريق العمل عن طريق اللمس بالأيدي الملوثة، بحسب الدكتور المخلافي، مؤكدا أن تسمم الدم الوليدي من أكثر أنواع الأمراض المعدية المكتسبة من المستشفيات اليمنية، وما سبق له علاقة بالإنتان الوليدي (المصابون به يكونون متوعّكين بشدّة ولا يرضعون جيدًا، ولون جلدهم رمادي، وقد تكون درجة حرارة أجسامهم مرتفعة أو منخفضة)، وهو ما يؤكده تقرير “حالات الوفيات لقسم الخدج وحديثي الولادة للأعوام ما بين 2016 و2022 بالمستشفى اليمني السويدي”، موضحا أن “عدد حالات الوفاة بين حديثي الولادة بالإنتان الوليدي بين 2017 وحتى 2022 بلغت 195 مولودا، بنسبة 24 بالمائة من عدد وفيات حديثي الولادة خلال الفترة نفسها”.

 

كما “أصيب 16.1 بالمائة من حديثي الولادة بالإنتان الوليدي من إجمالي 549 ولادة في المستشفى الجمهوري بمحافظة حجة”، وفق ما توصلت إليه نتائج دراسة “نتائج أمراض حديثي الولادة في وحدة العناية المركزة بمدينة حجة اليمنية (بيئة نزاع معقد 2017 – 2018)”، والتي أجراها Paul Eze وفطوم المقطري وأحمد حمود الشهري، وLucky Osaheni Lawani، ونشرت في مجلة Conflict and Health (متخصصة في الصحة العامة والاستجابات المتعلقة بالنزاع المسلح والأزمات الإنسانية)، في عام 2020.

ومن “بين الأسباب الأكثر شيوعا للوفاة بين الأطفال، الخداج (الولادة المبكرة) بنسبة 35.6 بالمائة والأمراض المعدية 21.6 بالمائة وأمراض الجهاز التنفسي 19.6 بالمائة”، حسب دراسة “أسباب وفيات الأطفال من عمر شهر وحتى 59 شهرا في اليمن”، والتي أجراها الباحثون فوزية فرج بامطرف، ونور عبد العزيز بنكروم، ومازن أحمد جواس، ونشرت في مجلة جامعة حضرموت للعلوم الطبيعية والتطبيقية الحكومية في الثاني من ديسمبر 2017.

وسجلت تلك الدراسة التي أجريت على الأطفال الذين ادخلوا إلى مستشفى مدينة المكلا، والمستشفى الجامعي لأمراض النساء والتوليد والأطفال في حضرموت شرق اليمن، خلال الفترة من 1 يناير 2011 حتى 31 ديسمبر 2014 نحو 898″ حالة وفاة من بين 5859 حالة للأطفال دون سن الخامسة” أجريت عليهم الدراسة، التي أوضحت أن 92.3″ بالمائة من وفيات الأطفال حدثت في الفئة العمرية من 1 إلى 11 شهرا”.

لكن الدكتور عبد الله القياضي، نائب مدير مكتب وزارة الصحة العامة والسكان التابع للحكومة الشرعية في تعز، يذهب إلى أن أسباب وفيات حديثي الولادة، تتمثل في نقص الوعي لدى الأسر، وضعف الرعاية الصحية للأم الحامل بسبب تردي الخدمات الطبية ونقص الدواء وصعوبة الوصول إلى المرافق الصحية، وتأخر عمليات الولادة في المستشفيات ووصول الحالات بعدما تكون في وضع خطر، ما يعرض الأم والجنين لمضاعفات صحية تؤدي إلى الوفاة.

إخلال بمعايير الوقاية من العدوى

لا تتوقف خطورة بيئة عمل المشافي المؤدية إلى وفاة حديثي الولادة عند التلوث والأمراض المعدية بل تمتد إلى تدني مستوى الالتزام بمعايير الوقاية من العدوى ومكافحتها واتباع الطرق التقليدية أثناء تقديم الرعاية الصحية ونقص التجهيزات الطبية والكوادر المؤهلة وشح المستلزمات الطبية والتشغيلية، ويؤكد مكتب منظمة اليونيسف في اليمن في رده المكتوب على أسئلة “العربي الجديد”، أن بيئة المشفى تؤثر على حياة الأطفال حديثي الولادة، وخاصة أولئك المعرضين لخطر كبير ما يحتم على المشافي والعاملين فيها الالتزام بمعايير الوقاية من العدوى ومكافحتها IPC (نهج علمي وحل عملي مصمم لمنع الضرر الناجم عن العدوى) من أجل بقاء حديثي الولادة على قيد الحياة، مشيرا إلى أن هذا الدليل، يتضمن آلية علمية لتنظيف وتعقيم أيدي العاملين وقفازاتهم وملابسهم وتنظيف أقسام الرعاية وأرضيتها وجدرانها ومحتوياتها، وتنظيف وتعقيم الأدوات الطبية وتخزين النفايات والتخلص منها بطريقة مأمونة والحد من تلوث المياه في الخزانات وتصريف ملوثات الهواء واتباع الممارسات الصحية السليمة أثناء التعامل مع المرضى ورعايتهم كما يضع آلية علمية للتطبيق والرصد والتقييم والتحقق.

لكن بعض المشافي في اليمن لا تلتزم بقواعد الوقاية من العدوى التي تفتك بالأطفال حديثي الولادة وتفاقم من أعداد الوفيات، كما يقول الدكتور المخلافي.

رد وزارتي الصحة في عدن وصنعاء

يرد الدكتور سالم الشبحي، وكيل وزارة الصحة لقطاع السكان التابعة للحكومة الشرعية على ما يكشفه التحقيق بالقول:”أسباب عدم توفير الرعاية الصحية الجيدة في المشافي، تعود إلى غياب الأجهزة والمعدات الطبية الحديثة وعدم فتح باب التوظيف للكوادر وعدم رفع أجور الموظفين وعدم إعمار ما دمرته الحرب من مرافق صحية “، مضيفا لـ”العربي الجديد”: “الوزارة تقيم دورات للتعريف بالطرق التي تساعد في خفض نسبة وفيات الأمهات والمواليد”، لكنه يؤكد أن بيئة العمل المثالية متوفرة نسبياً في مرافق التوليد ورعاية الأطفال حديثي الولادة بالمشافي، مشيرا إلى أن وزارة الصحة عملت على تعزيز استمرارية المتابعة للأم الحامل حتى الولادة وما بعدها، كما حرصت على جودة نوعية الخدمات الصحية المقدمة للأم والطفل وحديثي الولادة.

فيما يقول الدكتور المتوكل، أن المشافي اليمنية بحاجة إلى مالا يقل عن ألفي حضانة، إذ وفرت الوزارة 600 حضانة منها 120 حضانة بمستشفى السبعين في صنعاء، مضيفا في تصريح منشور على موقع وزارة الصحة أن المشافي بحاجة إلى توفير معدات إسعافيه وأجهزة تنفس اصطناعي والتجهيزات الفنية اللازمة لإنقاذ الأطفال حديثي الولادة.

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى