ما زال سؤال اللحظة اليمنية قائما: إلى أين تمضي الأحداث في البلد؟ كم تبقّى من الطريق وصولا إلى تسوية سياسية شاملة؟ وهو سؤال كبير بالنظر إلى واقع الحال، وما يشمله من تعقيدات تجعل المراهنة على الداخل تبدو ضعيفة ما يدفع لمناقشة إمكانات تأثير الاتفاق السعودي الإيراني على مسار هذه التسوية انطلاقا من فرضيات التحول التي ينظر إليها البعض بتفاؤل عكس جانب آخر له رؤيته المختلفة.
يبقى السؤال إلى أي مدى يبدو بعض اليمنيين متفائلين بتأثير حقيقي للاتفاق السعودي الإيراني على مسارات الهدنة والتسوية في اليمن؟ هنا يقول نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق الكاتب والمفكر عبدالباري طاهر إن «تأثير الاتفاق الإيراني السعودي باتع. لأن الحرب في اليمن. ومنذ الأشهر الأولى إن لم تكن الأسابيع تحولت من حرب أهلية إلى صراع إقليمي بين إيران والتحالف الذي قادته السعودية، ولعبت أمريكا وبريطانيا وفرنسا دوراً في الحرب فكانت حرباً مأجورة وقودها اليمنيون واليمن ميدان قتال».
وأضاف: الاتفاق تأثيره يعم المنطقة العربية كلها، وبالأخص: العراق وسوريا ولبنان، ويعني الاتفاق لليمن واليمنيين الكثير. تتجلى تباشيره في الهدنة المنتظرة، وتبادل الأسرى بناء على قاعدة (الكل مقابل الكل) واحتمالات تسوية مرتقبة.
وأعرب طاهر عن تفاؤله وتشاؤمه في الوقت ذاته بنتائج هذا الاتفاق وما سيتجلى عنه يمنيا. وقال: أنا شخصياً متفائل جداً ومتشائم. متفائل باتفاق قوتين إقليميتين الأولى شقيقة وجارة وامتدادها وأثرها في الحرب جد خطير. والثانية قوة إقليمية لها تأثير في المنطقة العربية واليمن. وكلا الدولتين مهمتان في مواجهة الخطر الإسرائيلي المتغول، والمدعوم أمريكياً، وهو يمثل تهديداً لامتنا العربية ولإيران.
وما يزكي التفاؤل حضور الصين الشعبية في رأسه. أما التشاؤم فمصدره ومرده إلى تهميش القوى السياسية المدنية والحديثة، وغياب مؤسسات المجتمع المدني والأهلي، وضعف الإرادة الوطنية المغيبة، والمطحونة بالتجويع والترويع والكبت. فحصر أمور الحرب والسلام في أطراف الحرب مخيف لأنهم صناع الكارثة. ولا يمكن أن يكونوا كل الحل؛ فغياب القوى الأهلية كعب أخيل، ومصدر القلق والتشاؤم.
كيف ستكون الفائدة؟
لكن تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، الأربعاء، تعزز من موقف المتفائلين في تأثير هذا الاتفاق إقليميا وخاصة في اليمن. في هذا يقول طاهر: ترحيب الإيرانيين مؤشر مهم للخلاص من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، والرغبة في تطبيع علاقاتها بجوارها العربي وبالأخص العربية السعودية، وفك الحصار المضروب عليها، ويفتح الاتفاق نافذة لعودة التفاوض من حول النووي الإيراني، ويمكن إيران من التفرغ لمشاكلها الداخلية، ومواجهة التهديد الإسرائيلي.
وبخصوص المملكة العربية السعودية فالاتفاق يتيح لها حسب طاهر «أن تصفر المشاكل، وتلقي بحمولة الصراعات الثقيلة عن ظهرها وتتفرغ لبرنامجها الثلاثيني والذي يؤهلها للعب دور إيجابي مع شقيقاتها العربية، وجوارها الإقليمي».
التسوية السياسية
بخصوص آفاق الهدنة والتسوية في اليمن في ضوء هذا الاتفاق، يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في مركز البحوث والدراسات اليمنية في عدن، عبدالكريم غانم: من المهم أن نفصل بين تأثير الاتفاق السعودي الإيراني في تمديد الهدنة وبين تأثيره في التوصل لتسوية، إذ من المتوقع أن يترك الاتفاق السعودي الإيراني أثره في الأزمة اليمنية في جوانب محدودة، منها: تمديد الهدنة، وملف تبادل الأسرى وصولًا إلى الرفع المطلق للقيود التي تعيق حركة الملاحة من وإلى موانئ الحديدة ومطار صنعاء.
وعلى المدى القريب والمتوسط سيسهم الاتفاق في إنهاء الصراع السعودي الحوثي، وطي صفحة الحرب العابرة للحدود، استجابة لمصلحة السعودية ومصلحة الحوثيين في الوقت نفسه، فلطالما سعى الحوثيون لتحييد دور التحالف العربي الذي تقوده المملكة في الحرب، لاعتقادهم أن خصومهم المحليين أضعف من أن يصمدوا أمامهم، بمعزلٍ عن مساندة مقاتلات التحالف العربي ودعمه لهم بالمال والسلاح، إذ من شأن الاتفاق أن يسهم في خفض الدعم السعودي للقوى اليمنية المناهضة للحوثيين إن لم يؤد إلى انتهائه، بناءً على مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو أحد المرتكزات التي تضمنها بيان إعلان الاتفاق.
لكن تصريح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية تجاه السلام وإنهاء النزاع في اليمن كان إيجابيا. وهنا يقول غانم: لتظل مسألة التوصل لتسوية سياسية بعيدة المنال، أما تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عن توفر الأرضية المناسبة لإنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق الحل النهائي للأزمة اليمنية، فيمكن تفسيرها انطلاقا من تصور الجانب الإيراني للأزمة اليمنية بعدِّها نزاعا بين السعودية واليمن ممثلا بالحوثيين، فالموقف الإيراني لا يبتعد كثيرا عن موقف الحوثيين المدفوع بفكرة (الولاية) ونشوة الانتصارات العسكرية، ولا يُغفل الرغبة السعودية الجامحة للخروج من مستنقع الحرب في اليمن، فالحوثيون لا يعترفون بمجلس القيادة الرئاسي، ويرفضون التفاوض معه، كما يرفضون القبول بالمشاركة السياسية للأطراف اليمنية الأخرى، وتنحصر جهودهم في الوقت الراهن في اقتناص الفرص لتحقيق مكاسب تكتيكية، تمكنهم من تعظيم نفوذهم وتعزيز قوتهم العسكرية.
وأضاف: ومن المتوقع أن تترك إيران لحلفائها الحوثيين هامشا كبيرا في أي مفاوضات قادمة، فلن تتدخل في الضغط عليهم لتقديم تنازلات تُفضي للقبول بالمشاركة السياسية للأطراف اليمنية الأخرى، وما يتم الحديث عنه من احتمالات تشكيل مجلس رئاسي أوسع يضم أعضاء من الحوثيين إلى جانب ممثلي الفصائل السياسية الأخرى، هو ضربٌ من الخيال، لن يجد طريقه للتحول إلى واقع، وإذا كان بوسع الرياض انتزاع اتفاق هدنة مؤقتة فمن الصعوبة بمكان التوصل لتسوية سياسية، تضمن للأطراف السياسية اليمنية المشاركة النديّة في السلطة.
مرحلة حرجة للطرفين
لكن البعض يعتقد أن تحقيق التسوية وارد في ظل توجه السعودية لطي صفحات الحروب والخلافات في المنطقة وحرص إيراني على معالجة مشاكلها التي وصلت إلى مرحلة حرجة. وهنا يقول غانم: يمكن النظر إلى ذلك من خلال ما قامت السعودية به من تطوير لاتفاقها مع إيران وتفاهماتها مع الحوثيين مدفوعة باحتياجها لحماية منشآتها النفطية وبناها التحتية واستثماراتها السياحية، وفقًا لمعادلة إنهاء العمليات العسكرية العابرة للحدود مقابل استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران وإنهاء القيود المفروضة على حركة السفن إلى موانئ الحديدة والرحلات الجوية من وإلى مطار صنعاء. ويرى غانم أن السعودية لجأت لإبرام اتفاق يمنحها نصرا سياسيا يتيح لها الخروج من الحرب في اليمن بأقل خسائر ممكنة، فطي صفحة الحرب يخدم رؤيتها لعام 2030 ولأن آلية معالجة الأزمة تصب في مصلحة حلفاء طهران أكثر من غيرهم، فمن الطبيعي أن تحرص إيران على المضي فيه إلى أبعد مدى، فهو يستجيب لمطامحها في تراكم نفوذها الإقليمي والدولي.
ومع عدم الإنهاء الجذري للتهديد، يرى غانم أنه من الطبيعي أن تصف الرياض خروجها من الحرب في اليمن أنه طي لصفحات الحروب في المنطقة. فمن خلال الاتفاق مع إيران وتقديم تنازلات واسعة للحوثيين تسعى المملكة العربية السعودية إلى إيجاد مخرج سريع وسهل من حرب اليمن، التي صارت تشكل استنزافا لثرواتها، وتعارضا مع أهدافها التنموية التي رسمتها في رؤيتها الاقتصادية. ولأن السعودية تدرك مدى تعقد الأزمة اليمنية نلاحظ أنها في الوقت الذي تمارس فيه تأثيرها للدفع باتجاه مفاوضات السلام مع الحوثيين تشرع في بناء جدار فاصل، يمتد لما يقرب من ألف كيلو متر، لإغلاق حدودها مع اليمن، تحسبا لعدم استتباب الأمن في المستقبل.
فجنبا إلى جنب تستخدم المملكة ما تمتلكه من قوة لتحصين حدودها، وتوظف ما لديها من نفوذ للضغط على القوى السياسية اليمنية الموالية لها للقبول بتسوية سياسية مع الحوثيين، وإن لم تكن منصفة، وفي المقابل لن يكون لدى الحوثيين وإيران ما يمنع من خفض التصعيد العسكري والإعلامي، على المدى القريب، وهي خطوة تكتيكية يمكنهم القيام بها ليس فقط بخفض التصعيد العسكري، بل من خلال إبداء القبول بتسوية سياسية غايتها تحييد الدور السعودي، لاستئناف معاركهم العسكرية الرامية للسيطرة على ما تبقى من محافظات يمنية، إن لم يكن عاجلًا فآجلًا.
الآمال المتاحة
يبقى سؤال المواطن اليمني عن الآمال المتاحة لتسوية الخلاف اليمني في ظل واقع راهن مفاعيله الداخلية لا تريد نهاية للحرب في ظل ما نعرض عن تأثير المفاعيل الإقليمية على الصراع الداخلي. وهنا يقول عبدالكريم غانم: من خلال النهج المتبع حول الملفات التي يجري التفاوض بشأنها يتضح أن مسار المفاوضات سيتجه نحو بناء هدنة أطول من سابقاتها، لا تقف حدودها عند مستوى العمليات العسكرية العابرة للحدود بل تصل إلى حد وقف التصعيد في الجبهات داخل اليمن، إذ أن من مصلحة الرياض وحلفائها عدم إحراز الحوثيين المزيد من التقدم الميداني باتجاه باب المندب وساحل البحر الأحمر وصوب حقول النفط في مأرب وشبوة، الأمر الذي يجعل من الاتفاق السعودي الإيراني أشبه ببيضة القبان للسير نحو عقد اتفاق الهدنة وحمايتها، إلا ان بقاء موازين القوى العسكرية بين أطراف الصراع داخل اليمن مختلة لمصلحة الحوثيين يجعل الهدنة تبدو هشة في السياق اليمني، خلافا لما هو عليه الحال السلام عبر الحدود حيث يرتفع حجم المخاطر المتوقعة لخرقه.
واستطرد: إلا ان من شأن بقاء حالة الانسداد السياسي رغم سريان الاتفاق السعودي الإيراني وتراجع الدعم الإقليمي لأطراف النزاع المحلية أن يدفع باتجاه البحث عن مقاربات أكثر واقعية للحل السياسي في اليمن، انطلاقا من تشخيص الأزمة كصراع على السلطة بين أطراف يمنية لكلٍ منها تصورها لنظام الحكم وشكل الدولة، وهو ما يضع اليمنيين في مواجهة التحديات الفعلية التي تحول دون الحل السياسي، وإعادة بناء علاقاتهم بجيرانهم على أساس الندية والمصالح المشتركة، بدلا من التبعية ومحاولات فرض الحلول الجاهزة.
وبعد
تبقى التسوية في اليمن بحاجة ماسة قبل كل ذلك إلى اتفاق يمني يمني يعزز من قدرات الاتفاق الإقليمي في الوصول إلى تسوية لصالح اليمنيين وتطلعاتهم؛ فالإقليم تبقى له مصالحه بينما مصالح اليمن يصنعها اليمنيون؛ وهذا يلقي على كواهل كافة القوى المدنية اليمنية مسؤولية التحاور على طاولة واحدة تحت سقف اليمن وتطلعات أبنائه وصولا إلى رؤية مستقبلية لشكل الدولة والجيش والحكم انطلاقاً من واقع مثخن بالجراح يعزز من الآمال بأن على كافة القوى والأطراف الوطنية أن تتجاهل خلافاتها ومشاريعها الصغيرة وتلقي سلاحها وتلتحق بركب اليمن ومشروع الدولة المدنية التي ذهب في سبيلها الكثير من التضحيات منذ ستة عقود، فهل يتحقق ذلك؟ من الصعب ان يتحقق ذلك في ظل وجود جماعات ممسكة بالسلاح؛ إذ لابد من تسليم السلاح أولا وثانيا.
يمثل الاتفاق السعودي الإيراني فاتحة طريق للمضي باليمن نحو مستقبل يصنعه أبناؤه ابتداء من انهاء المعاناة الإنسانية الراهنة وصولاً إلى دولة وطنية مستقلة؛ وهذا لن يتحقق إلا بالحوار اليمني اليمني الذي يمكن المراهنة عليه لتحرر البلد من كل تبعات الحرب ومشاريعها ووصولا إلى الدولة التي يعيش فيها كل اليمنيين تحت سقف المواطنة المتساوية والتوزيع والاستخدام العادل للسلطة والثروة وطي صفحة القوة والغلبة.
لا يمكن لليمن أن يتجاوز مرحلة الحرب والانطلاق في بناء دولته انطلاقا من اتفاق إقليمي؛ لكنه فرصة داعمة لإقامة حوار يمني صادق بمشاركة كل القوى والمكونات المدنية بما فيها مكونات المرأة والشباب والتباحث بشأن هوية المستقبل اليمني بدءا من شكل الدولة وصيغ مرجعياتها الدستورية والقانونية، وخروج قوات التحالف وتفكيك كل المشاريع الصغيرة وتسليم السلاح وبناء جيش انتماؤه لليمن الكبير، وتأسيس دولة مدنية تحقق تطلعات اليمنيين وتحفظ كرامتهم وتصون حقوقهم وحرياتهم وتضع بلدهم في ركب المستقبل.
متابعات