صار علم الإفتاء علماً مستقلاً، وصنعة من الصنعات الثقيلة، له منهجية علمية وإطار محكم محدد، وارتبط هذا العلم ارتباطاً وثيقاً بالعلوم الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والفلسفية، فضلاً عن ارتباطه الوثيق بعلم الأصول والمقاصد، ولم يكن هذا التحول فى يوم وليلة، بل كان نتاج جهود كبيرة من دار الإفتاء المصرية وفى القلب منها الدور الذى تضطلع به الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم.
وتعددت مسارات عمل الفتوى، التى على رأسها هموم الوطن والأمة وتفكيك مقولات الحركات المتطرفة التى اعتمدت على الفتوى كآلية للاستقطاب والتبرير والتأصيل، وكذا أزمة اضطراب المفاهيم، والانحرافات اللادينية كالإلحاد.
فضيلة الدكتور شوقى علام، مفتى الديار المصرية، تحدث فى لقاء تليفزيونى مع الإعلامى الأستاذ حمدى رزق عن منهجية دار الإفتاء المصرية، وذكر عدداً من السمات والآليات والأطر والمحاذير فى العمل الإفتائى، ومن ذلك:
– أن المنهجية العلمية فى الفتوى لا تتوافر فى فتاوى غير المتخصصين، وهو ما رصدناه من خلال فتاواهم وإصداراتهم، فليس لديهم تثبت، ولا إدراك للواقع، ولا مآلات ما يصدرونه من فتاوى، خلافاً للمتخصصين من العلماء الذين حصَّلوا العلوم ولديهم المنهجية وتدرَّبوا على تطبيقها، وهو أمر يحتاج إلى تدرج.
– أن مكونات الفتوى تتكون من عناصر متكاملة، ويمكن حصرها فى 4 أسئلة، أولها: هل ثبت فى هذه المسألة نص شرعى؟ وتعنى: التثبت الذى هو من الأسس المنهجية لدى العلماء المسلمين على كافة العصور، والثانى هو: ماذا؟ وتعنى: ما المراد من هذا النص؟ والثالث هو: لماذا؟ وتتعلق بمسألة تعليل الحكم الشرعى؛ وفيه يبدأ العقل فى التفاعل، ويفهمنا مقصود الشريعة الإسلامية من ذلك، وأن الأوامر والنواهى الشرعية إنما جاءت من أجل تحقيق مصالح الخلق، ودفع الضرر والمفاسد، والسؤال الرابع هو: كيف؟ ونعنى به: كيفية إنزال الحكم على الواقع، بعد إدراك المتغيرات والمآلات.
– أن تاريخ الإفتاء شهد عدم تحيز أى مُفتٍ من المفتين على مر العصور داخل دار الإفتاء المصرية لمذهبه الفقهى، بل مذهب المفتى الفقهى لا يؤثر فى حركة الفتوى، حيث إن التمذهب لا يعنى التعصب، بل يعنى الانطلاق من منهجية علمية لإنزال حكم الله الوارد فى النصوص الشرعية على الوقائع الحادثة بضوابط علمية رصينة ومناهج واضحة وتسلسل موصول برسول الله صلى الله عليه وسلم.
– أن الغالبية من غير المتخصصين لا يعترفون بالتعددية المذهبية التى هى من مقومات المنهج الأزهرى، الذى يقوم على ثلاثة أركان؛ هى: التعددية المذهبية، والعقيدة الأشعرية، وتهذيب النفس والسلوك وهو التصوف، فالمنهج الأزهرى يتعامل مع النص بفهم واسع وهو مسلك الصحابة الكرام، بل لم يُقْصِ أبداً أى مذهب من المذاهب المعتبرة، حيث إن المذهبية تتَّسع للجميع.
– أن الفقهاء لم يجمدوا فى المجالات العملية، بل راعوا الرأى الآخر المخالف، ونظروا فى كيفية الاستفادة منه باعتباره يمثل فسحة وسَعة على المكلف، ما دام قد صدر عن مجتهد من أهل الاختصاص، ونموذج ذلك الإمام القرافى الذى يدعو للإفتاء بعرف المستفتى فيقول: «وعلى هذا تراعى الفتاوى على طول الأيام؛ فمهما تجدد فى العرف اعتبره، ومهما سقط أسْقِطه ولا تجمد على المسطور فى الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده، وأَجرِه عليه وأفته به، دون عرف بلدك والمقرر فى كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبداً ضلال فى الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».
– أن القوانين المعمول بها فى الدولة لها أصل معتبر فى المذاهب الفقهية المعتبرة.
إن هذه الخطوط التى حددها فضيلة المفتى فى كلامه تؤكد ثقل صناعة عملية الإفتاء، وأهمية استيعاب المدارس الفقهية لمن يقوم بالإفتاء، والإفتاء وفق معايير تراعى قواعد الترجيح، وتحقق مقاصد الشريعة، وهذا لا يتوفر إلا فى الإفتاء الجماعى المؤسسى لا الفردى، مما ميز دار الإفتاء المصرية بالاعتدال فى الفتوى، واتساع الأفق، ولأجل هذا كان الحفاظ عليها حفاظاً على الدولة واستقرارها، ودار الإفتاء فى هذا لم تكن منعزلة عن الأزهر الشريف، بل تتضامن معه ومع هيئاته العلمية المختلفة، فكلاهما يستقى من مشكاة واحدة، ومؤسسة الإفتاء رافد أساسى من روافد الأزهر، نبعت منه، ودارت فى فلكه، والتزمت منهجه، وبهذا وجب اتخاذ إجراءات قوية وحاسمة وقانونية ضد من يقدمون فتاوى متطرفة منحرفة، تضر بالدين والوطن والمجتمعات.
متابعات