تحقيقات / “أمير القلوب” و”فخر العرب”… ألقاب أم منصات للتراشق الشعبي؟

يقف نجما الكرة المصرية أبو تريكة في مرمى مدافع الاستقطاب وصراع الإسلام السياسي وحرب القيل والقال الجدير بالتأمل

المسألة لم تعُد مقارنة بين نجمين، أو منافسة بين رمزين، أو حتى منازلة بين مشهورين. نجم الفريق الإنجليزي “ليفربول” ولاعب المنتخب المصري محمد صلاح أو “مو صلاح”، ونجم الأهلي والمنتخب المصري المعتزل محمد أبو تريكة، يتناطحان ويتنازلان ويتراشقان على مدار الساعة عبر منصات التواصل الاجتماعي وعلى أثير الشاشات وصفحات الجرائد بالوكالة. وعلى الرغم من أن النجمين “صديقان” إن التقيا تعانقا، وإن تواصلا تقاربا، وإن جاء ذكر أحدهما في حضرة الآخر أثنى عليه وأشاد به، فإن الأجواء المحيطة ملتهبة، والبيئة حولهما حاضنة للنزاع ومؤججة للخلاف ودافعة إلى التنابز بالأيديولوجيات والتراشق بالانتماءات والمعايرة بمن دعم الإرهاب، وفي أقوال أخرى الديمقراطية التي أتت بأول رئيس مدني منتخب، والذي تصادف أنه قيادي في جماعة الإخوان المسلمين، أو بمن نأى بنفسه عامداً متعمداً عن الانتماءات، لكنه أقام شجرة “كريسماس” في بيته، واحتفل مع ابنته بـ”هالوين”، وقال إنه لا يشرب الخمر لأن “نفسه لم تذهب إليها” وليس لأنها حرام.
ثراء الكرة المصرية

وعلى الرغم من ثراء كرة القدم المصرية بعشرات من نجوم التسديد والهجوم والدفاع على مدار تاريخ اللعبة، فإن تسديد أهداف في مرمى أبو تريكة لحساب صلاح والعكس، والهجوم على صلاح محبة بأبو تريكة والعكس، والغزل المفرط بأبو تريكة نكاية في صلاح والعكس، تضع النجمين السابق والحالي أمام فوهة مدفع الاستقطاب السياسي وصراع الإسلام السياسي وحرب القيل والقال اللامتناهية في سماء الإعلام و”السوشيال ميديا” والشد والجذب الشعبيين، وجميعها مثير للاهتمام وجدير بالتحليل.

التحليل العميق الذي تدور رحاه منذ عقد ويزيد، لا ينصب على مباريات كرة القدم أو أداء النجمين أو تقييم اللعبة تحت سطوة هذا أو هيمنة ذاك. التحليل والتدقيق و”الهبد” والصولان والجولان الدائران من دون هوادة من نصيب السياسة المختلطة بالمكايدة الدينية تارة والمقارنة الثقافية الممتزجة بالإسلام السياسي تارة أخرى.
آخر ما يتذكره المصريون ومتابعو الكرة المصرية من مقارنات بين النجوم، كانت بين أحمد شوبير وعصام الحضري، أو حسام حسن وجمال عبد الحميد، أو محمود الخطيب وحسن شحاتة، بحيث المقارنة بالأداء والأفضلية بناءً على السداد، لكن ما يدور على مدار الساعة من شد وجذب بين عشاق أبو تريكة ومحبي صلاح، وأحياناً بين من لا ناقة له في الكرة ولا جمل ولكنه دخل مجال الصراع والعراك “نصرة للإسلام” أو “ترجيحاً لكفّة مصر المدنية” أو “دفاعاً عن جماعة الإخوان” أو “استكمالاً لجهود إنهاء ملف الإسلام السياسي” أو “أملاً في إسقاط النظام”.
استحضار تريكة وتذكر صلاح

كثرة استحضار أبو تريكة كلما تحدث صلاح، أو تذكر صلاح كلما أطل أبو تريكة، واقتصار الاستحضار والتذكر على الدين أو السياسة أو كليهما يعنيان أن المقارنة بين النجمين ليست رياضية في أغلبها. قليلة هي المواقع ونادرون هم الأشخاص الذين يتكبدون عناء سرد المسيرة الكروية لهما، لكن المواقع والأشخاص والجهات التي تتبحر على مدار نحو عقد كامل في التنقيب عما قاله هذا في استحقاق انتخابي هنا، أو ما كشفت عنه ملامح ذاك في تحول سياسي أو أمني أو قضائي هناك، أكثر من أن تُعدّ أو تحصى.
تزامل النجمان في المنتخب المصري بين عامي 2011 وحتى اعتزال أبو تريكة في 2013. وسيظل عام 2013 مختلفاً عن كل الأعوام، فهو العام المفصلي في تاريخ مصر الحديث الذي شهد تظاهرات شعبية جارفة مطالبة بإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين، وهو الذي حفر أيضاً هوة عميقة بين أبو تريكة وكثيرين من المصريين الذين انقلبوا على حكم الجماعة وعارضوا ما سموه بـ”الحكم الديني” أو “هيمنة جماعات الإسلام السياسي على الحكم”. وكان 2013 أيضاً عام “السفر من دون وداع” لأبو تريكة عقب اعتزاله وقراره العمل في التحليل الكروي في قنوات تلفزيونية قطرية، ما أثار انقسام المصريين حول “أمير القلوب”، الذي رجح اختياره ميل سياسي وانحياز أيديولوجي لكل ما يمثل تأييداً لجماعة الإخوان المسلمين
لا يسمع لا يرى لا يتكلم

وعلى الرغم من إعلان أبو تريكة عام 2011 أنه “لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم”، رداً على تأكيد القيادي الإخواني محسن راضي في حديث تلفزيوني أن أبو تريكة ينتمي لجماعة الإخوان منذ أعوام طويلة، لكن الجماعة فضلت أن يبقى انتماءه سراً “حفاظاً على مستقبله الكروي”، إلا أن المعايير الشعبية والمقاييس الثقافية والاختيارات المهنية مالت في غالبيتها إلى ترجيح كفة صدق ما قاله راضي.
إعلان أبو تريكة تأييد المرشح للانتخابات الرئاسية والقيادي في جماعة الإخوان في 2012 محمد مرسي، لم يزعج كثيرين وقتها، لكنه أصبح “دليل إدانة” و”برهان هوى إخواني” في ما بعد. وعلى الرغم من ذلك، بقي قطاع كبير من جماهير النادي الأهلي على عهد محبة “أمير القلوب” محافظين مدافعين. في الوقت ذاته، بقي جانب آخر من جماهير الأهلي وقطاعات عريضة من المصريين الذين عارضوا الجماعة وناهضوا الحكم الديني بأشكاله يتأرجحون بين تصنيف شعبي للاعب بأنه “داعم للإرهاب” ولو كان بالانتماء فقط، أو وضعه في قوائم شعبية سوداء لمن يعمل في جهات ومؤسسات “معادية” لمصر وتكرس أثيرها لـ”ادعاءات” الجماعة و”أكاذيب” الإسلام السياسي.

تحفظ على “القديس”
قرار التحفظ على أموال “أمير القلوب” وإعلان اسم “القديس” ضمن ملّاك شركة سياحة ترتبط أعمالها بالجماعة المحظورة في 2015 أجج غضباً شعبياً جارفاً تجاه اللاعب، ولم يخفف من حدته قرار محكمة القضاء الإداري بعد شهر واحد بإلغاء التحفظ وكل ما يترتب عليه.

وفي مارس (آذار) عام 2021، أصدرت محكمة النقض المصرية حكماً برفض الطعن المقدم من أبو تريكة برفع اسمه من قوائم الإرهاب، وهذا الحكم يعني استمرار إدراج “القديس” في قوائم ترقب الوصول إلى المطارات وفقدان شرط حسن السمعة اللازم لتولّي الوظائف والمناصب العامة وغيرها من النصوص المتعلقة بالإرهابيين والكيانات الإرهابية، وهي تهمة شعبية كبرى قبل أن تكون أمنية وقضائية.
ظلت “تهمة” وفي أقوال أخرى “شرف” انتماء اللاعب للجماعة لصيقة به ومحددة للمواقف الشعبية حوله، ثم أصبحت عاملاً محدداً لمكانة مو صلاح مقارنة به ومعيار توزيع المحبة بينهما مع تأجج عملية وضع مو صلاح وتصريحاته وتصرفاته تحت مجهر المقارنة.

إيموجي على الوجه

مجهر المقارنة مسيس، وكذلك مصبوغ بألوان التدين ومعاييره الشعبوية. الساجد في الملعب مؤمن وملتزم ويحبه الله والمؤمنون. المحتفل بـ”كريسماس” عبر تزيين شجرة مخطئ ومذنب وعليه العودة إلى صوابه الديني. من يرفض ظهور زوجته وإن ظهرت صورتها يتم وضع إيموجي على وجهها حبيب الله. من يحتفل بأهدافه في حضور زوجته في الملعب عليه أن يراجع نفسه ويعود إلى صوابه. قائمة التقييم الشعبي المائل لترجيح كفة التشدد مفتوحة على مصاريعها.
لكن المصاريع كثيرة ولا تقف عند حدود أيديولوجيا بعينها. فتأكيد فنانة مشهورة على أن ملامح الإرهاب ولؤم المتطرفين واضحة وضوح الشمس على وجه هذا، أو المطالبة بتعميم الاسم “بفتيكة” بدل “تريكة” عقاباً له على ضلوعه في انتماءات إسلامية سياسية، أضرت بمصر والمصريين، أو قيام مذيع مشهور بمهاجمة النادي الأهلي لأن صفحة النادي الرسمية هنأت اللاعب “الإرهابي” بعيد ميلاده وغيرها شائع أيضاً في الجبهة المقابلة.

جبهات متنافرة
الجبهات كثيرة ومتنافرة. خبر صحافي مكتوب عن أبو تريكة اختار أن يعرّف اللاعب المعتزل بأنه “الوحيد الذي نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والمسلمين وسط إهانات أوروبا المستمرة للإسلام. وحرص على ارتداء قميص مكتوب عليها “نحن فداك يا رسول الله” في مباراة المنتخب ببطولة كأس الأمم الأفريقية عام 2006، رداً على الرسوم المسيئة، ولم يعبأ بقرارات “فيفا” القاضية بمنع رفع شعارات أو شارات أو عبارات سياسية أو دينية أو غيرها.

وعلى الرغم من أن الصحافة الغربية، لا سيما البريطانية، تعاملت مع مو صلاح على مدار أعوام احترافه في “ليفربول” باعتباره أحد أدوات القضاء على الإسلاموفوبيا الآخذة في التمدد، بعد أن استحوذ على قلوب وعقول مشجعي “ليفربول” كباراً وصغاراً وأصبح رمزاً ومثالاً يُحتذى على الرغم من احتفاظه بتركيبته الثقافية والدينية، فإن تحزبات السياسة المرتكزة على الدين تظل تستدعي أبو تريكة وتقلل من صلاح، وهو ما يدفع الفريق المناهض إلى القيام بالعكس.

منظومة السجود
وعكس ما يعتقد البعض من أن أبو تريكة وحده من يعتنق منظومة السجود على أرض الملعب ابتهاجاً بفوز أو شكراً لله على إحراز هدف، فإن صلاح يسجد أيضاً، لكن يظل سجود أبو تريكة مسجلاً باسمه في تاريخ تحول المنتخب من “منتخب الفراعنة” أو “المنتخب المصري” إلى منتخب الساجدين. ويؤرخ لتحوّل السجود الفردي والجماعي على أرض الملعب إلى طقس كروي، الرئيس الأسبق للاتحاد المصري لكرة القدم سمير زاهر، الذي قال في فيلم وثائقي بعنوان “الجيل الذهبي” إن صرعة السجود على أرض الملعب بدأها أبو تريكة، ثم سار على دربه بقية اللاعبين، وإن أجواء الالتزام تمكنت من معسكرات تدريب المنتخب في ذلك الوقت. وأصبحت الصلاة جماعة عادة وتم تخصيص قاعة للصلاة وقراءة القرآن.

وعلى الرغم من ارتفاع بعض الأصوات المصرية حالياً مطالبة، ليس فقط بالفصل بين الدين والسياسة، بل بين الدين والكرة إذ إن الحابل اختلط بالنابل وأوشك على إدخال مظاهر الحياة في مصر نفق أفغانستان، لكن أصواتاً أخرى تمسك بتلابيب تديين مظاهر الحياة، سواء كانت أكلاً أو شراباً أو كرة قدم دفاعاً عن الهوية والتزاماً بالمعتقد
هزيمة “ليفربول”

هذه الأيام وبينما محمد صلاح يعيش أياماً صعبة بعد هزيمة “ليفربول” أمام “ريال مدريد” في نهائي دوري أبطال أوروبا، وتحميل كثيرين من خبراء الكرة ومحلليها عبء الهزيمة له ولزميله ساديو ماني، إضافة إلى غضب جماهير “ليفربول”، إذ بأعضاء من فريق محبي “أمير القلوب” قلباً سياسياً وقالباً كروياً يسهمون في توجيه الطعنات لصلاح، “لو كنت قلت إنك لا تشرب الخمر لأن دينك يحرمها لا لأن نفس حضرتك لا تذهب إليها، ربما أكرمك الله بالستر والفوز”.

وكان صلاح أجاب عن سؤال للإعلامي عمرو أديب حول موقفه حين يعرض عليه شرب الكحول، بالقول: “لا أشرب خموراً لأنها ليست أمراً كبيراً بالنسبة لي. نفسي لا تذهب إليها”.
أقوال وأفعال

التغريدات التي أغرقت “تويتر” وقتها تنديداً بالإجابة، أعيد التنقيب عنها وإعادة تغريدها، “على فكرة يا فخر العرب (لقب مو صلاح)، الخمور لا نشربها لأنها حرام شرعاً وليس لأننا لا نحبها. عرفت الآن نتيجة أقوالك وأفعالك؟”.

أقوال وأفعال “أمير القلوب” تقف في مقابل “فخر العرب”. اتهامات وتلاسنات وتراشقات بين فريقين متناحرين سياسياً، كل منهما له مفهوم مغاير للدين والتدين، كلاهما يتخذ من نجمَي كرة قدم أداة ومنصة ووسيلة للتنابز. ويبقى النجمان صديقين يكنّ كل منهما للآخر قدراً من المحبة والود، أو هكذا ما تشي به مقابلاتهما القليلة ومراسلاتهما الموسمية.
المصدر/ اندبندنت عربيه

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى