الذوق العام وأخلاقيات المكان

بقلم/شيماء المرزوقي

تقاس حضارة الشعوب، بعمرانها وتنميتها ونظمها وقوانينها، وبما تستند إليه من تقنيات وتطور الخدمات، وأيضاً بما تحمله من ذوق عام، يصون العلاقات اليومية من الفوضى والاحتكاك، الذوق العام تحديداً، هو اللغة الصامتة التي نتحدثها دون كلمات، حين نخفض أصواتنا في مكان مزدحم، أو نلتزم طابوراً دون مراقب، أو نكف عن انتقاد المختلفين عنّا في الشكل، أو الشخصية.
الذوق العام ليس مجموعة أوامر صارمة، بل هو فن التعامل مع الآخرين بأدب يراعي وجودهم وحقوقهم، هو ما يجعل الفضاء المشترك أكثر لطفاً واحتراماً، ويمنح الحياة الاجتماعية سلاسة تحميها من التوتر، حين يلتزم الناس به، تتحول الشوارع إلى أماكن آمنة، والمقاهي إلى فضاءات راقية، والمجتمع إلى لوحة متناغمة.
تكمن أهمية الذوق العام في كونه درعاً تحمي القيم الإنسانية البسيطة التي تهمل أحياناً في زحمة الحياة، كالتقدير، والحياء، والتسامح، والاحترام، إنه لا يقيد الحرية بقدر ما ينظمها، ليبقى للجميع حق العيش في بيئة لا تجرح ولا تستفز، فالحرية التي لا تراعي الآخرين تتحول من حق إلى فوضى، ومن تعبير إلى تعد. الذوق العام أيضاً صورة لهوية المجتمع، يعبر عن عمق ثقافته واتزانه الداخلي، الشعوب التي تحترم خصوصية المكان والناس، تزرع في أفرادها شعوراً بالمسؤولية والانتماء، فلا يحتاج النظام إلى مراقبة دائمة، لأن الأخلاق أصبحت رقابة من الداخل، ولعل الأديب الإنجليزي صموئيل جونسون لخص هذه الفكرة حين قال: «اللباقة لا تكلف شيئاً، لكنها تشتري كل شيء». ولأن الذوق لا يفرض بالقوانين وحدها، فإن ترسيخه يبدأ من البيت والمدرسة والإعلام، حين يرى الطفل والده يعتذر، أو أمه تبتسم لبائعة متعبة، يتعلم أن اللطف ليس ضعفاً، بل رقي، وحين تشجع المؤسسات سلوكيات الذوق العام، تتحول القيم إلى عادة يومية لا إلى شعار مؤقت، ولا يمكن إغفال الدور الريادي لدولتنا الحبيبة، في ترسيخ هذا السلوك الحضاري، فهي نموذج ملهم في احترام الذوق العام، وصناعة بيئة تعايش تقدر الإنسان، وتعلي من قيم الاحترام والتناغم بين مختلف الثقافات، حتى غدت ممارسات الذوق الرفيع جزءاً أصيلاً من الحياة اليومية فيها.
الذوق العام ليس ترفاً اجتماعياً، بل أساس لاستقرار العلاقات وحماية كرامة الإنسان، إنه الميزان الذي يضبط توازن الحرية والاحترام، ويمنح المجتمع مظهره الأجمل، أن يعيش الناس معاً، مختلفين، لكن مهذبين في اختلافهم.

متابعات

إقرأ ايضا

اخترنا لك
إغلاق
  • الإحسان
زر الذهاب إلى الأعلى