في بلد متعدد بمشكلاته التاريخية ومحدود بخيارات نجاته، جاءت الحرب لتشكل ثالث الآفات بعد الفقر والجهل، مما ضاعف هول المأساة التي يأتي الجوع في طليعة معززاتها القاسية.
كانت هذه الحال بمثابة التحول التراجيدي المؤلم في تاريخ البلد الذي عرف بحضارته المائية الممتدة على عهد طويل من الشواهد الإنسانية الفريدة، ليتحول اليوم إلى رصيف كبير يستنجد سفن العالم قذف ما تيسر من شوائل القمح والبقوليات التي كان يصدر فائضها في عهد ساد، ثم ما لبث أن باد في نفق الحرب المريع الذي لا يُعلم لمداه منتهى أو قرار.
توقف الرواتب دفع بنحو 1.2 مليون موظف حكومي كانوا يعتمدون منذ عقود على ما يتقاضونه من الوظيفة الحكومية نحو هاوية الفقر والجوع، يقابله انهيار اقتصادي متلاحق سواء في مناطق سيطرة الحوثي المتمثلة في العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات الشمالية، أو مناطق سيطرة الحكومة اليمنيه ، ترجمه انهيار العملة الوطنية أمام سلة العملات الأجنبية مما تسبب أيضاً في تزايد النداءات الأممية وتوترها لمضاعفة الدعم الإنساني الطارئ لبرامج الإغاثة العاجلة على امتداد التراب اليمني مترامي الأطراف.
وعلى رغم أن الحكومة اليمنيه وبدعم من دول التحالف صرفت رواتب الموظفين في مناطقها ، إلا أن هذه الجهود لم تفلح جراء رفض الحوثيين تنفيذ المقترحات الأممية بهذا الشأن، والتي تتضمن اتفاقاً “لضمان استخدام إيرادات ميناء الحديدة لمصلحة اليمنيين بالإسهام في سداد رواتب موظفي الخدمة المدنية”، بحسب “الإعلان المشترك” المقدم من المبعوث الأممي السابق مارتن غريفيثس لإيجاد حل لعملية عودة صرف الرواتب.
وفي أغسطس (آب) الماضي اتهمت الحكومة اليمنية جماعة الحوثي بنهب إيرادات المشتقات النفطية الواردة عبر ميناء الحديدة منذ بدء الهدنة الإنسانية في الثاني من أبريل (نيسان) الماضي برعاية الأمم المتحدة، مؤكدة أن المبلغ المنهوب”يكفي لتمويل دفع رواتب موظفي الدولة في مناطق سيطرة جماعة الحوثي مدة ستة أشهر”، وهذه الأزمة المركبة جعلت اليمنيين لسنوات طويلة بلا رواتب، فكيف يعيشون؟
الحوالات الخارجية
وتلعب الحوالات الخارجية من دول الاغتراب دوراً في إطعام الأسر اليمنية التي تعيش في الداخل.
وتقع السعودية على رأس الدول من حيث عدد المغتربين اليمنيين، إذ تحتضن نحو 1.3 مليون مغترب، منهم 315 رجل أعمال و144 من أصحاب الكفاءات العلمية والبقية من العمالة، بحسب إحصاءات رسمية حديثة عن وزارة الخارجية والمغتربين اليمنيين، في حين يوجد 70 ألف مغترب يمني في دولة الإمارات منهم 70 رجل أعمال و74 من ذوي الكفاءات العلمية، وفي قطر 11 ألفاً منهم أربعة رجال أعمال وسبعة من ذوي الكفاءات العلمية، وفي البحرين 10 آلاف، وفي الكويت أكثر من 7656 مغترباً، بينهم ثمانية رجال أعمال و15 من أصحاب الكفاءات العلمية.
وهذه النسبة من المغتربين، وفقاً للباحث الاقتصادي عبدالواحد العوبلي، “أسهمت كثيراً في الحد من شبح الجوع لنسبة لا بأس بها من الأسر في الداخل”، إذ تؤكد التقديرات الصادرة عن البنك الدولي أن المغتربين في الخارج يحولون حوالى 4 مليارات دولار سنوياً إلى ذويهم في الداخل، وهذه المبالغ تشكل مصدر الدخل الأول لليمنيين في الداخل، وهما المصدر الأول والأكبر للعملة الصعبة في السوق المحلية، في حين “يتبقى عدد قليل آخر من اليمنيين يعتمدون على رواتب حكومية رمزية في مناطق الحكومة اليمنيه ، وعدد ضئيل آخر يعتمدون مساعدات شحيحة من وقت لآخر من المنظمات المحلية والدولية التي تنوعت بين مواد الإغاثة الغذائية والطبية أو المساعدات النقدية البسيطة”.
القطاع الخاص
وعن مصير ودور القطاع الخاص في إيجاد حلول اقتصادية بديلة وتوفير فرص عمل للمنقطعين، يرى العوبلي أن هذا القطاع “بات يعمل في حدوده الدنيا بسبب المضايقات والجبايات المستمرة، وبخلاف ذلك تظل فرص الاستثمار والأعمال محتكره من قبل أتباع الميليشيات الحوثية والجماعات المسلحة التي تسيطر على الأرض”.
وأوجدت الجماعه الحوثية قوى عاملة بديلة تواليها وتمنحها امتيازات خاصة، في حين تجبر بقية الموظفين السابقين على العمل من دون أجر، عدا نصف راتب يصرف كل ستة أشهر بمتوسط يصل إلى 40 ألف ريال (70 دولاراً أميركياً)، وفقاً لبرنامج إحلال للموظفين الذي قامت به منذ سيطرت على شمال البلاد.
هذه القسمة دفعت بقطاع واسع من الموظفين الحكوميين في مناطق سيطرة الجماعه الحوثيه إلى الانتقال للعمل في القطاع الخاص بأجور زهيدة تمثل حلاً بديلاً.
مقاتلون
وبما أن الغالبية الأخرى بلا معيل داخلي أو خارجي، جاء التجييش الحوثي الذي يستهدف الأطفال والشبان والمراهقين في المناطق التي يسيطرون عليها، مستغلاً حاجة أهاليهم إلى الراتب الضئيل، وهو ما وسع من قدراته البشرية على مدى سنوات الحرب.
ويؤكد رئيس “منظمة ميون لحقوق الإنسان” عبده الحذيفي أن الجماعه سعت منذ ما قبل الانقلاب إلى استغلال حال الفقر المدقع والجهل لإقناع الأهالي الدفع بأبنائهم إلى جبهات القتال دفاعاً عن مشروعها الطائفي، مضيفاً “الجماعه الحوثية دائماً ما تستغل حاجة الناس إلى الغذاء بابتزازهم خدمة لمشروعها باستخدام أداتين رئيستين، الأولى المساعدات الغذائية التي تسلمها المنظمات الدولية، إذ تحرم من المساعدات كل من يرفض تسليم أبنائه للتجنيد من الفقراء والأيتام، وأما الثانية فهي المراكز الصيفية الطائفية التي تفخخ عقول النشء”.
ويعد الالتحاق بالجيش اليمني أو القوات ذات الولاءات الأخرى المعادية للحوثي فرصة دخل للحصول على رواتب في وقت لا تنتظم أجور وظائف الخدمات العامة.
العقد تتوالد
وأكدت الحكومة اليمنية أنها تتعاطى بإيجابية مع الجهود الأممية والدولية الرامية إلى إيجاد آلية تعيد صرف الرواتب في المناطق اليمنية كافة، ولكنها تشترط أموراً عدة من أبرزها اعتماد كشوف الموظفين قبل الانقلاب الحوثي، وتوريد الميليشيات إيرادات موانئ الحديدة إلى البنك المركزي، وهو ما يقابل برفض حوثي متكرر.
وفي مقابلته الأخيرة مع “قناة العربية” أكد رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي عجز حكومته عن دفع رواتب الموظفين بداية العام 2023، وأن آخر راتب يمكن للدولة توفيره هو راتب شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي.
وأرجع العليمي العجز لتوقف صادرات النفط وتوقف الإيرادات النفطية التي كانت تعتمد عليها الدولة في صرف رواتب الموظفين وصرفيات مؤسسات الدولة كافة بنسبة تتجاوز 70 في المئة،
وكذلك إلى استمرار تهديدات وهجمات الجماعه الحوثية على موانئ تصدير النفط في المناطق المحررة، وبالتالي خلو خزائن الدولة من الإيرادات الكفيلة بتأمين صرف الرواتب، وهو النبأ الذي شكل هاجس قلق لليمنيين في المناطق والمحافظات المحررة، مما يشير إلى تحديات اضافية ستقابل هذا الملف الذي سيشكل عقدة جديدة في طريق حلحلة الأوضاع في البلد المنكوب بحربه التي طالت.
متابعات