هكذا وصل لبنان إلى مرحلة الانهيار الكامل

ترك الرئيس اللبناني “ميشال عون” منصبه بعد انتهاء ولايته دون تعيين خليفة له. وقد تم انتخاب “عون” نفسه رئيسا في عام 2016 بعد أن كان المنصب شاغرًا لمدة 29 شهرًا.

ومنذ حصول لبنان على الاستقلال في عام 1943، كانت هناك 6 مرات لم يتمكن فيها البرلمان المنقسم من الاتفاق على رئيس جديد.

ويعيش لبنان الآن مأزقا سياسيا معقدا، فإلى جانب عدم وجود رئيس فإن الحكومة الحالية انتقالية لتصريف الأعمال بمعنى أن صلاحياتها محدودة للغاية.

في غضون ذلك، تواجه البلاد أسوأ أزمة اقتصادية على الإطلاق، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الفساد وانشغال الطبقة السياسية بمراكمة الثروات حتى أصبحت ​​البلاد على حافة الانهيار.

مخطط بونزي

يدار القطاع المصرفي اللبناني وفق ما قد يسميه البعض مخطط “بونزي” وهو نظام هرمي للاحتيال. وبموجب القانون، يجب على جميع البنوك العاملة في لبنان نقل معظم أصولها السائلة إلى البنك المركزي.

ومع ذلك، أساء البنك المركزي إدارة السياسة النقدية للبلاد وأخفى البيانات التي تظهر مدى الانهيار المالي الوشيك في لبنان.

وهكذا تمكنت البنوك من جذب مودعين جدد من خلال تقديم أسعار فائدة مرتفعة – وصلت إلى 9% على الودائع الدولارية – وتعمدت تضليل الناس بشأن المخاطر التي تتعرض لها مدخراتهم.

وبلغت ودائع الأفراد في البنوك اللبنانية نحو 172 مليار دولار في عام 2014، أي ما يعادل أكثر من 370% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

وفي عام 2018، انخفضت الأصول السائلة للبنك المركزي إلى 43 مليار دولار، وانخفضت إلى 20 مليار دولار في الربع الأول من عام 2020.

وانخفضت احتياطيات البنك المركزي من حوالي 60 مليار دولار في عام 2005 إلى أقل من 10 مليارات دولار هذا العام.

وللمرة الأولى منذ الاستقلال، تخلف لبنان عن سداد ديونه الخارجية – سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار – بعد أشهر قليلة من انتفاضة 2019 التي اندلعت احتجاجا على ضريبة “الواتساب” البالغة 20 سنتًا.

وقبل بضعة أشهر، أعلن نائب رئيس الوزراء إفلاس البلاد، مشيرًا إلى أن الخسائر، التي يُعتقد أنها تزيد على 100 مليار دولار، سيتقاسمها البنك المركزي والقطاع المصرفي الأوسع والمودعون.

وأضاف أن المسؤولين اللبنانيين يأملون في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، حيث تركزت المفاوضات على إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وصياغة سياسة مالية متوازنة، وإعادة بناء شبكة الكهرباء المنهارة، وإصلاح البيروقراطية المتضخمة، ومعالجة التضخم المفرط الذي بلغ 3000%.

تخلي الدولة عن واجباتها

منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، تخلت الدولة تدريجياً عن واجباتها تجاه الناس، بدءاً بتقنين الكهرباء الذي بلغ ذروته قبل أشهر بانقطاع كامل للكهرباء بسبب نقص المازوت اللازم لتشغيل محطات الكهرباء.

ولعبت أزمة الوقود الناجمة عن انخفاض قيمة الليرة بنسبة 95% دورًا رئيسيًا في التدهور السريع لإمدادات المياه وشبكات الصرف الصحي.

ومنذ يوليو/تموز 2021، أصدرت اليونيسف تحذيرات بشأن نقص المياه والتداعيات الصحية لذلك، خاصة بالنسبة للفئات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر ضعفاً، والتي تشكل 90% على الأقل من السكان.

وطلبت هيئة مرافق المياه مؤخرًا من السكان في أجزاء كثيرة من البلاد اتخاذ تدابير لشراء المياه بأنفسهم لأنها لا تستطيع تشغيل مضخاتها – لكنها ذكّرتهم بغسل أيديهم بشكل متكرر بسبب تفشي الكوليرا في البلاد.

واستنزف الانهيار المالي موارد العديد من القطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم. وقد أصبح هناك نقص شديد في الأدوية خاصة المتعلقة بالأمراض المزمنة.

يحاول الأفراد الآن تعويض أوجه القصور في الدولة، حيث يتطوع الشباب للقيام بأعمال الوزارات والبلديات والنقابات والمؤسسات الحكومية. لقد تعلم الناس عدم الاعتماد على الدولة وإدارة ضروريات الحياة بأنفسهم.

نظام سياسي مختل

جاء الانهيار المالي مع وجود نظام سياسي مختل. وفي عام 2019، استقال رئيس الوزراء “سعد الحريري” بعد احتجاجات واسعة شهدتها البلاد.

وعندما استقال خليفته “حسان دياب” عام 2021 بعد انفجار ميناء بيروت، كلف البرلمان “الحريري” بتشكيل حكومة جديدة لكنه اشتبك مع الرئيس “ميشال عون” بشأن التعيينات الوزارية في مناصب مهمة مثل الدفاع والخزانة والداخلية والخارجية.

وبعد 8 أشهر من المحاولات الفاشلة لتشكيل الحكومة، استقال “الحريري” مرة أخرى وحل محله “نجيب ميقاتي” الذي أشرف على الانتخابات العامة في مايو/أيار الماضي، وكلفه “عون” بتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، لكن رغم مرور 5 أشهر لم يعلن “ميقاتي” أي تعيينات بسبب الخلافات مع “عون” مرة أخرى.

في عام 1988، عندما انتهت ولاية الرئيس الأسبق “أمين الجميل” دون اتفاق على من يخلفه، تم تعيين حكومة عسكرية بقيادة “عون”، الذي كان آنذاك قائدا للجيش، لضمان أن صلاحيات الرئيس لن يتم الاستيلاء عليها من قبل جهة أخرى.

وقبل مغادرته الشهر الماضي، وقّع “عون” مرسوما غير مسبوق بقبول استقالة حكومة تصريف الأعمال.

ويهدف المرسوم إلى دعم مساعي “التيار الوطني الحر” (بقيادة صهر “عون” الذي تحطمت آماله الرئاسية بسبب معارضة واسعة النطاق) لعرقلة محاولات حكومة تصريف الأعمال للمطالبة بسلطات الرئيس.

وأراد “عون” طمأنة المسيحيين الموارنة بأن خروجه لن يزيد من صلاحيات رئيس الوزراء السني. واعتبر “ميقاتي” أن المرسوم يخالف المبادئ الدستورية، ووعد بأن تستمر الحكومة في أداء واجباتها الدستورية.

وبالرغم من استعداد المجتمع الدولي للمساعدة، لم يكن هناك تجاوبا بالشكل الكافي من قبل السياسيين اللبنانيين.

وبعد اجتماع مع المسؤولين اللبنانيين، قال مبعوث الأمم المتحدة أنهم يفتقرون إلى الدافع لمعالجة المشاكل المالية في البلاد، والتي قضت على الطبقة الوسطى التي كانت تنبض بالحياة في يوم من الأيام. وقال إن المسؤولين لم يظهروا أي إحساس بالمسؤولية أو حتى التعاطف مع محنة الشعب.

وحث رئيس مجلس النواب “نبيه بري” الكتل النيابية على الانخراط في حوار لاختيار رئيس جديد، لكن الكتل الكبرى لم تتجاوب معه، معتبرين أن التجربة علمتهم أن الحوار لا طائل من ورائه لأن الرؤساء اللبنانيين يتم اختيارهم بالفعل من قبل جهات أجنبية.

ويرى اللاعبون المحليون أن القرارات السياسية الكبرى في البلاد، بما في ذلك تعيين الرئيس، يتم اتخاذها خارج لبنان.

آفاق المستقبل

عندما تولى “عون” الرئاسة عام 2014، قال إنه قطع عهداً على نفسه بتوفير الرفاهية للشعب اللبناني، وأكد أن مهمته تتضمن حماية الحريات الشخصية وحرية التعبير وتحفيز الاقتصاد.

لكن بعد مغادرته منصبه، خاطب “عون” أنصاره وألقى باللوم على جميع مؤسسات الدولة وحمّلها المسؤولية عن أزمات البلاد السياسية والاقتصادية، ودعا إلى بذل جهود استثنائية لاجتثاث الفساد. ويبدو أن هذا الموقف مدفوع جزئيا بفشل “عون” في تنصيب صهره “جبران باسيل” خلفا له.

ويبدو أن تعافي لبنان من هذه الأزمة شبه مستحيل اليوم، حيث سيمر بمرحلة انسداد سياسي بسبب ترتيبات تقاسم السلطة المعقدة، فيما يستمر الفساد في ضرب أركان البلاد. باختصار يمكن القول إن مستقبل لبنان قاتم.

ومع الإطالة المتعمدة للأزمة الاقتصادية التي بدأت قبل 3 سنوات، أصبح لبنان نموذجا لأسرع انهيار لأي بلد على الإطلاق، لكن هذا الفشل ليس مفاجئًا، بالنظر إلى أن البلد محكوم منذ الاستقلال من قبل مجموعة من النخب الطائفية التي تخدم نفسها على حساب البلاد.

ولو كان هناك شيء نجحت فيه الحكومات السابقة المتعاقبة، فسيكون نجاحها في إخفاء مدى الفشل المالي للبلاد. والآن يدفع الشعب التكلفة كاملة.

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى