كابول- منذ سيطرة طالبان على معظم أراضي أفغانستان في الخامس عشر من أغسطس العام الماضي، بدت ملامح الحياة التي كانت تتشكل على مدار العقدين الماضيين تتبخر ومعها أحلام الكثير من النساء الأفغانيات، اللواتي بات يهددهن ستار البرقع والحرمان من التعليم والعمل.
وقلّة من النساء الأفغانيات لم يفقدن أيّا من أقاربهن الذكور في الحروب المتتالية، في الوقت الذي فقد فيه الكثير الأزواج والآباء والأبناء والأخوة وظائفهم، كما تدهور دخلهم بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
ورغم القيود المشددة تمسكت بعض النساء بحقهن في العمل في المدن الأفغانية الكبرى ككابول وهرات وقندهار وهن يحاولن بكل الوسائل الحفاظ على أُسرهن.
وتقول شافاري شاباري الخبّازة البالغة من العمر 40 عاما “في هذه الأوقات الصعبة، عملي هو مصدر سعادتي”. وتضيف “زوجي من دون عمل ويبقى في المنزل. أنا قادرة على إطعام أطفالي”.
وبمجرد استيلائها على الحكم، أبعدت طالبان النساء من غالبية الوظائف العامّة، أو خفّضت رواتبهن، حتّى أنهن أُمرن بالبقاء في المنزل.
وغالبا ما تكون النساء أول من يُطرد من الشركات الخاصة المتعثّرة، خصوصا تلك التي لا تستطيع توفير الفصل بين الجنسين في أماكن العمل، كما تشترط حركة طالبان. ومع ذلك، تبقى بعض الأعمال مفتوحة أمامهن.
وتعدّ روزينا شيرزاد البالغة من العمر 19 عاما من الصحافيات القليلات اللواتي تمكنّ من مواصلة عملهن، رغم القيود المتزايدة المفروضة على النساء في هذه المهنة. وتقول “عائلتي تدعمني. لو كانت عائلتي ضدّ عملي، لا أظن بأنّه سيكون للحياة أيّ معنى في أفغانستان”.
وبدأت إحدى النساء الأخريات في تربية النحل بعدما خسر زوجها وظيفته.
وحتى قبل استحواذ طالبان على السلطة، كانت أفغانستان بلدا محافظا بشدّة وذات نظام أبوي. واقتصر التقدّم الذي أُحرز في مجال حقوق المرأة على مدى العقدين الماضيين على المدن إلى حدّ كبير.
فقد استمرّ ارتداء البرقع الذي كان إلزاميا في ظلّ نظام طالبان الأول من العام 1996 إلى العام 2001، على نطاق واسع، لاسيما خارج العاصمة كابول.
لكن في وقت سابق من هذا العام، فرضت الشرطة الدينية على النساء عدم الخروج سافرات الوجه في الأماكن العامّة من دون فرض ارتداء البرقع، كما منعت تعليم الفتيات، لكنها تراجعت بفعل ضغوط دولية كبيرة، لتسمح لهن بالدراسة وفق شروط مجحفة تشمل فصل المباني المدرسية والالتزام بارتداء الحجاب وقيام معلمات بالتدريس لهن.
واكتشفت نفيسة مكانا مثاليا لإخفاء كتبها المدرسية عن عينَي شقيقها الذي ينتمي إلى طالبان، فهي تخفيها في المطبخ حيث نادرا ما يدخل الرجال الأفغان.
وحُرمت مئات الآلاف من الفتيات والشابات على غرار نفيسة من الدراسة منذ عودة الحركة المتشددة إلى السلطة، لكنّ تعطشهن إلى التعلم لم يخفت.
وتقول نفيسة التي ترتاد مدرسة سرية في إحدى قرى شرق أفغانستان “ليس للرجال ما يفعلونه في المطبخ، لذلك أحتفظ بكتبي هناك”. وتضيف “إذا علم شقيقي بالأمر سيضربني”.
وعندما سيطرت طالبان على مقاليد الحكم، وعدت بحكم أقل تشددا مقارنة بفترة حكمها السابقة بين 1996 و2001 والتي شهدت انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، لكن الحركة زادت من تشديد القيود على حقوق الأفغان ولاسيما الفتيات والنساء.
ومُنعت النساء في كل أنحاء البلاد من السفر دون محرم لمسافة طويلة، كما أمرتهن السلطات بتغطية وجوههن في الأماكن العامة مع تفضيل ارتداء البرقع.
ومع عدم السماح بإعادة فتح الثانويات المخصصة للإناث في أجزاء كثيرة من أفغانستان، ظهرت مدارس سرية في غرف منازل عادية في كل أنحاء البلاد.
وكانت الاضطرابات التي شهدتها أفغانستان على مدى عقود سببا في تدمير نظام التعليم في أفغانستان، لذلك مازالت نفيسة تدرس مواد المرحلة الثانوية رغم أنها تبلغ 20 عاما.
فقط والدتها وشقيقتها الكبرى تعرفان بالأمر، أما شقيقها فقاتل لسنوات مع طالبان ضد الحكومة السابقة والقوات بقيادة الولايات المتحدة في الجبال، وعاد إلى الديار بعد انتصار الحركة وقد تشبع عقيدتها المتشددة التي تقول إن مكان المرأة هو المنزل.
وسمح لها بارتياد مدرسة دينية لتدرس القرآن في الصباح، لكنها في فترة ما بعد الظهر تخرج خلسة من المنزل لحضور صف دراسي سري تنظمه “الجمعية الثورية لنساء أفغانستان”.
وتقول نفيسة “قبلنا تحمّل هذا الخطر، وإلا سنبقى غير متعلمات”.
وتضيف “أريد أن أصبح طبيبة… نريد أن نحقق شيئا ما، نريد الحرية وخدمة المجتمع وبناء مستقبلنا”.
وعندما زارت وكالة فرانس برس المدرسة السرية التي تذهب إليها، كانت نفيسة وتسع فتيات أخريات يناقشن حرية التعبير مع مدرّستهن ويجلسن جنبا إلى جنب على سجادة ويتناوبن على قراءة كتاب بصوت عال.
ومن أجل الوصول إلى المدرسة، غالبا ما تغادر الفتيات المنزل قبل ساعات ويسلكن طرقا مختلفة لتجنب رؤيتهن في منطقة معظم سكانها من البشتون الذين يشكلون الجزء الأكبر من عناصر طالبان.
وإذا سأل مقاتل من طالبان إلى أين هنّ ذاهبات، تقول الفتيات إنهن مسجلات في ورشة خياطة ويخفين كتبهن في أكياس تسوق أو تحت العباءة أو البرقع.
إنهن لا يخاطرن فحسب، بل يقدمن تضحيات أيضا، مثل شقيقة نفيسة التي تركت المدرسة للحد من أي شكوك قد تراود شقيقها.
ويقول علماء دين إنه لا يوجد أي مبرر في الإسلام لحظر تعليم الفتيات في الثانويات، ورغم ذلك تقوم طالبان بالعكس، ومازالت تصر على أنها ستسمح باستئناف الدراسة.
لكنّ هذه المسألة أحدثت انقساما في الحركة، فيما قالت مصادر عدة إن فصيلا متشددا ينصح المرشد الأعلى هبةالله أخوندزادة بمعارضة أي تعليم للفتيات، أو في أفضل الأحوال، أن يقتصر التعليم على الدراسات الدينية أو صفوف تدريبية مثل الطبخ والتطريز.
ومع ذلك، يبقى الموقف الرسمي أن عدم استئناف الدراسة يرجع إلى “مسألة تقنية” وأن الفصول الدراسية ستعود بمجرد وضع منهج قائم على القواعد الإسلامية.
ومازالت تلميذات المرحلة الابتدائية يرتدن المدارس، حتى الآن على الأقل، ومازالت الشابات يرتدن الجامعات، ولو أن المحاضرات تعطى للذكور والإناث بشكل منفصل مع تقليص بعض المواد بسبب نقص في الأساتذة النساء.
لكن، من دون شهادة المدرسة الثانوية، لن يكون بمقدور المراهقات إجراء امتحانات القبول في الجامعة، لذلك فإن الطالبات الحاليات قد يكنّ الدفعة الأخيرة من المتخرجات في البلاد في المستقبل المنظور.
ويوضح الباحث عبدالباري مدني أن “التعليم حق ثابت في الإسلام للرجال والنساء على حد السواء”، مضيفا “إذا استمر هذا الحظر، ستعود أفغانستان كما كانت عليه في القرون الوسطى، سيدفن جيل كامل من الفتيات”.
وهذا التخوف من احتمال ظهور جيل ضائع هو ما دفع المدرّسة تمكين إلى تحويل منزلها في كابول إلى مدرسة.
وكادت هذه المرأة الأربعينية أن تخسر مستقبلها بعدما أُجبرت على التوقف عن الدراسة خلال فترة حكم طالبان الأول عندما حظر تعليم الفتيات.
واحتاجت تمكين إلى سنوات من التعليم الذاتي لكي تصبح مدرّسة، إلا أنها فقدت وظيفتها في وزارة التعليم عندما عادت طالبان العام الماضي إلى السلطة.
وبدعم من زوجها، حوّلت تمكين في البداية مستودعا في منزلها إلى صفّ دراسي، ثم باعت بقرة تملكها عائلتها لجمع أموال وشراء الكتب، لأن معظم الفتيات اللواتي يأتين إليها ينتمين إلى أسر فقيرة ولا يستطعن شراءها.
اليوم، تدرّس اللغة الإنجليزية والعلوم لنحو 25 تلميذة. وتعتقد مليحة البالغة 17 عاما أنه سيأتي اليوم الذي سترحل فيه طالبان عن السلطة وتضيف “سنستخدم معرفتنا في أمر مفيد”.
وفي إحدى ضواحي كابول، في متاهة من المنازل الطينية، تعطى ليلى أيضا دروسا بشكل سرّي. وبعدما رأت الخيبة على وجه ابنتها بعد إلغاء قرار إعادة فتح المدارس الثانوية، أدركت أن عليها القيام بشيء ما.
وتروي المرأة البالغة 38 عاما “إذا كانت ابنتي تبكي، فمن المؤكد أن فتيات أخريات يبكين أيضا”.
وتتجمع نحو 12 فتاة يومين في الأسبوع في منزل ليلى الذي يضم باحة وحديقة تزرع فيها الخضر والفاكهة. وتقول كوثر البالغة 18 عاما “نحن لسنا خائفات من طالبان”.
لكن الحق في الدراسة ليس الهدف الوحيد لبعض الفتيات والنساء الأفغانيات اللواتي يتم تزويجهن في كثير من الأحيان لرجال يقسون عليهن أو يفرضون عليهن قيودا صارمة.
زهراء مثلا، فتاة ترتاد مدرسة سرية في شرق أفغانستان، زوجت عندما كانت في الرابعة عشرة من العمر وهي تعيش حاليا مع أهل زوجها الذين يعارضون فكرة حضورها صفوفا دراسية.
وتتناول الفتاة حبوبا منوّمة لمحاربة القلق، إذ تخشى أن يخضع زوجها لأسرته ويبقيها في المنزل. وتقول عن مدرستها السرية “أخبرهم أنني ذاهبة إلى السوق المحلي وآتي
إلى هنا”.