عندما تتصالح السعودية مع جماعة الحوثيين، وتأتي للحوار معها في القصر الجمهوري بالعاصمة صنعاء، وتقدم نفسها كوسيط لإنهاء الحرب في اليمن وإنجاز تسوية سياسية تكون الجماعه الحوثيه طرفا رئيسيا فيها، فإن ذلك يعد اعترافا صريحا بالحوثيين كطرف رئيسي وشرعي في المعادلة اليمنية، وبذلك تكون السعودية هي ثاني دولة أجنبية بعد إيران تعترف بجماعة الحوثيين، لكنه اعتراف تم بعد ثماني سنوات من تدخلها العسكري في اليمن بذريعة القضاء على الانقلاب الحوثي وإعادة السلطة الشرعية إلى العاصمة صنعاء، وكانت النتيجة أنها قضت على السلطة الشرعية التي كانت قائمة لحظة اندلاع عملية “عاصفة الحزم”، وأتت بسلطة بديلة لا شرعية قانونية لها، قبل أن تعترف بجماعة الحوثيين كطرف رئيسي وشرعي في التسوية السياسية التي تعمل لإنجازها.
وبالرغم من أن مساعي السعودية للمصالحة مع جماعة الحوثيين تأتي نتيجة لفشلها في الدفاع عن أراضيها وعن منشآتها النفطية، وفشلها أيضا في حربها بالوكالة مع إيران، لكنها لا تريد الانسحاب من اليمن وترك اليمنيين ليحسموا معركة الدفاع عن الجمهورية ضد مليشيا الحوثيين بأنفسهم، كي لا تبتعد اليمن عن وصايتها، خشية أن تكون نتيجة ذلك في غير مصلحتها، لاسيما أن القضاء على جماعة الحوثيين ستستفيد منه أطراف لا ترغب بها السعودية، وبالتالي فإن مساعيها لإنجاز تسوية سياسية لا تعكس نوايا حسنة، وتبدو فخا جديدا للوضع في اليمن.
إن اعتراف السعودية بالحوثيين، ومحاولتها فرضهم طرفا رئيسيا في المعادلة السياسية داخل اليمن، سيكون لذلك تداعيات واسعة على مجمل الصراع في البلاد، وسيزيد من تعقيد الأزمة بدلا من حلها، ولعل هذا هو ما تريده السعودية لليمن، التي فشلت طوال السنوات الماضية في صناعة وكيل لها يتمتع بالقوة والنفوذ، ويعمل على إنهاك البلاد وإفقارها والقضاء على روح النظام الجمهوري وتهميش الأحزاب وتعطيل المؤسسات الدستورية، وغير ذلك من أهداف السعودية في اليمن، فرأت أن البديل هو الاعتراف بمليشيا الحوثيين كطرف رئيسي في اليمن، لتظل البلاد في حالة دائمة من الصراع الذي يعيقها عن النهوض والاستقرار.
– مؤشرات سلبية.. المزيد من التعقيد
بعد الزيارة الأخيرة للسفير السعودي لدى اليمن إلى صنعاء ولقائه ببعض قيادات جماعة الحوثيين، وصف قادة حوثيون نتائج تلك الزيارة بأنها إيجابية، وأن بعض القضايا محل خلاف تم التوافق بشأنها، وأن عقبات كثيرة قد أزيلت من اتفاق وشيك، وأنه يتم وضع اللمسات الأخيرة لإعلان اتفاق شامل. وفي نفس الوقت سخر قادة حوثيون من مساعي السعودية للتوسط لإنهاء الحرب في اليمن وحل الأزمة سياسيا، باعتبارها طرفا رئيسيا في الصراع، ولا يقبلون سوى بالحوار معها، وفوق ذلك يلوحون بالتصعيد العسكري ضدها في حال فشل مفاوضاتها معهم.
من الواضح أن جماعة الحوثيين لا ترغب بالسلام مع بقية الأطراف اليمنية، ولذلك فهي منذ بداية الحرب تبدو حريصة كل الحرص على أن تكون المفاوضات بشأن إنهاء الحرب في اليمن بينها وبين السعودية فقط، التي تقود الحرب في اليمن ضد انقلاب الجماعه الحوثيه ، ولا شك أن التوقيع على أي اتفاق بين السعودية والحوثيين يعني أيضا اعتراف السعودية بشرعية الحوثيين، ولن يتم أي اتفاق إلا بوصف الحوثيين لذلك الاتفاق بأنه بين اليمن والسعودية، وهم بذلك سيضربون عصفورين بحجر: انتزاع اعتراف سعودي بشرعيتهم، وتحييد الدور العسكري السعودي مما سيمكنهم من الانفراد بخصومهم في الداخل بذريعة استعادة السيطرة على بقية المحافظات وحماية وحدة البلاد.
وسيزيد الطين بلة في حال أن أي اتفاق بين السعودية والحوثيين يتم بحضور الأمم المتحدة، لأنه بذلك ستكون السعودية قد عززت اعترافها بجماعة الحوثيين كطرف رئيسي في اليمن باعتراف الأمم المتحدة بتلك الجماعه الحوثيه ، وقد يلحق ذلك تأييد ومباركة دول عدة للاتفاق بين السعودية والحوثيين، والذي سيحرص الحوثيون على أن يكون مذيلا بأنه بين اليمن والسعودية، كما يحاول الحوثيون احتكار التحدث باسم اليمن من خلال مطالبتهم بخروج القوات الأجنبية من جميع الأراضي اليمنية، وأن يكون ذلك ضمن البنود الرئيسية للاتفاق.
أما إذا وافقت مكونات مجلس القيادة الرئاسي على الاتفاق بين السعودية والحوثيين، الذي سيكون مذيلا بأنه بين السعودية واليمن، فإن تلك المكونات ستكون قد اعترفت هي الأخرى بجماعة الحوثيين كطرف رئيسي وشرعي في المعادلة السياسية داخل اليمن، وبذلك ستدخل الأزمة اليمنية نفقا جديدا من التعقيدات، كون جماعة الحوثيين تستخدم أسلوب المراوغة والخداع ضد خصومها بنفس طريقة إيران في مراوغة المجتمع الدولي ومحاولة خداعه فيما يتعلق ببرنامجها النووي، وكذلك فمليشيا الحوثيين تبحث عن شرعية الاعتراف بها منذ بداية الحرب، لأن ذلك سيعزز وضعها الداخلي، وسيكسر عنها عزلتها الدولية، وسيمكنها من توظيف العديد من الأوراق لمصلحتها.
ويؤكد ما سبق حديث قيادات حوثية عن أن أي تسوية سياسية للأزمة في اليمن يجب أن تعكس التوازنات على الأرض، ما يعني أن التسوية السياسية التي ستقبل بها المليشيا الحوثية هي تلك التي ستمنحها نصيب الأسد في السلطة والثروة كونها تسيطر على معظم المحافظات اليمنية التي تمتاز بالكثافة السكانية، كما أن حديث الحوثيين عن التوازنات على الأرض فيه تعريض بسلطة مجلس القيادة الرئاسي المحصورة في مساحات ومدن محدودة، إذا استثنينا المحافظات الجنوبية والشرقية التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي الذي يلمح بأنه لن يتنازل عن خيار الانفصال في مفاوضات التسوية السياسية مهما كانت الضغوط.
إن إنجاز تسوية سياسية في ظل اختلال السيطرة على الأرض، ستكون بلا شك في مصلحة جماعة الحوثيين التي تسيطر على كتلة سكانية كبيرة، فضلا عن سيطرتها على العاصمة صنعاء التي توجد فيها مؤسسات الدولة، مما سيمكن الجماعه الحوثيه من تحسين شروطها التفاوضية بشأن طبيعة التسوية وشكل السلطة أو تركيبة الحكم ونسبة التمثيل فيه، كما أن التسوية السياسية في ظل اختلال الوضع الميداني ستمنح مليشيا الحوثيين الفرصة لتثبيت نفوذها ونقله إلى وضع أخطر مما هو عليه حاليا.
– من فخ المحاصصات إلى فخ الاعتراف بالحوثيين
لليمنيين تجارب سيئة مع الوساطات والمبادرات السعودية لإنهاء بعض أزمات البلاد، والتي، كالعادة، تتبعها أعمال عنف عاجلا أو آجلا، مثل اتفاق نقل السلطة في الرياض من علي عبدالله صالح إلى نائبه عبد ربه منصور هادي (2012) والذي اندلعت بعده الحرب الأهلية بسبب انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية، واتفاق الرياض بين السلطة الشرعية والمجلس الانتقالي (2019)، والذي أعقبه تفجر أعمال العنف في بعض المحافظات الجنوبية وسيطرة المجلس الانتقالي عليها، واتفاق المصالحة الوطنية (1970) بعد الحرب التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر 1962، وهو الاتفاق الذي أنقذ الإماميين الملكيين من هزيمة كاملة وأشركهم في السلطة، مما مكنهم من التغلغل في جسد الجمهورية ونخرها من داخلها لإعادة الحكم الإمامي الذي يمثله اليوم الحوثيون.
كما أن السعودية تعتمد المحاصصات في وساطاتها لإنهاء أي أزمة سياسية، فوساطتها بعد 11 فبراير 2011 اقتضت تقاسم السلطة وفقا لمحاصصات سياسية، فلحزب المؤتمر وشركائه نصف المقاعد الوزارية، ولأحزاب المعارضة وحلفائها النصف الآخر. وبعد سيطرة المجلس الانتقالي على العاصمة المؤقتة عدن، اقتضت الوساطة السعودية حينها تشكيل حكومة مناصفة مناطقية بين الشمال والجنوب، وفي كل نصف منها محاصصات مناطقية وسياسية وغيرها، كما أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي تم وفقا لمحاصصات سياسية ومناطقية.
وعطفا على ما سبق، فالتسوية التي تعمل السعودية على إنجازها في اليمن ستقتضي محاصصات طائفية ومناطقية، وسيحرص الحوثيون على أن تكون وفق التوازنات على الأرض، خصوصا أنهم هذه المرة قد اكتسبوا اعتراف السعودية بهم، والسعودية تسعى لكف أذى الحوثيين عنها، وبالتالي فهي ستستجيب لمطالبهم، وربما تضغط على الأطراف الأخرى لمنح الحوثيين نصيبا أكبر في المحاصصة التي ستقترحها، وبنفس الوقت فالمجلس الانتقالي سيصر على التمسك بخيار الانفصال، أي أن التسوية السياسية ستكون محكومة بشروط الحرب وليس بشروط السلام، وبالتالي فلن يُكتب لها النجاح.
وسيزيد الأمر تعقيدا أن الدور الأجنبي سيظل هو الموجه للأطراف اليمنية والضاغط عليها بشأن التسوية السياسية المرتقبة، لأن الصراع في اليمن يخضع للعديد من الاعتبارات في البيئة الإقليمية والدولية، وهي اعتبارات تشكل في جوهرها قيودا للحل السياسي الذي يرغب به اليمنيون، لأنه يتعارض مع أهداف السياسة الخارجية لدول الإقليم المنخرطة مباشرة في الصراع، وفي مقدمتها السعودية والإمارات وإيران. يضاف إلى ذلك الاستقطاب والتنازع في المحيط الإقليمي والدولي (طائفي، أيديولوجي، ثورات مضادة لثورات الربيع العربي)، وطبيعة المنظومة السياسية الإقليمية المناهضة للتغيير وللديمقراطية.
وفي كل الأحوال تعد السعودية المصدر الأول للعبث في اليمن، بحكم الجوار ونفوذها في البلاد، ويتجلى ذلك في صعوبة التوفيق بين قيادتها الحرب ضد الحوثيين، وتصنيفهم منظمة إرهابية، ثم المفاوضات السرية معهم، والبحث عن وسطاء آخرين لتسهيل التفاوض معهم، وانتهاء بالاعتراف بهم واستجداء الصلح معهم، ومخالفة الأعراف السائدة المتمثلة في أن يذهب الطرف الأضعف إلى عاصمة الطرف الأقوى لاستجداء الصلح، لكن في حالة السعودية والحوثيين كان العكس، حيث ذهبت السعودية إلى صنعاء لاستجداء الصلح مع المليشيا الحوثية، وكأنها هي الطرف الأضعف أو المهزوم.
ومما شجع السعودية على كل هذا العبث في اليمن والتحكم في مسار الصراع، فساد الطبقة السياسية اليمنية وفشلها وانتهازيتها، وغياب قوة الرأي العام الضاغط والمؤثر على توجهات القيادة السياسية. ومهما يكن، فالسعودية قد تنجح في تسوية أزمتها مع الحوثيين، وربما تنجح في إجراء تسوية هشة ومؤقتة، وربما تفشل في ذلك، لكن في كل الأحوال يُعد الاعتراف السعودي بجماعة الحوثيين فخا جديدا للوضع في اليمن، وسيتسبب في تأجيج الصراع أكثر من ذي قبل، وسيضفي مزيدا من التعقيدات على الأزمة اليمنية.
متابعات