الإنهاك النفسي لا يعلن نفسه، ولا يأتي بملصق واضح، ولا يطلب إذناً، يتسلل بهدوء، يراكم التعب، يضغط الأعصاب، ويجفف المساحات الإنسانية في الداخل، وحين يصل الإنسان إلى مرحلة التشبع من الضغط، لا يصبح شخصاً سيئاً، بل يصبح أقل صبراً، أقل احتمالاً، وأقل قدرة على التفاعل، كثير من الجفاء الذي نراه اليوم ليس قسوة مقصودة، بل طاقة مستنزفة، الناس لا تستيقظ صباحاً وتقرر أن تكون حادة، لكنها تستيقظ محمّلة بمهام، والتزامات، وتوقعات، ومشاكل صغيرة لم تجد وقتاً لمعالجتها، ومع الوقت يبدأ التعب بالحديث نيابة عنها، وهذا الإرهاق المتراكم لا يظهر فجأة بل يتسلل تدريجياً ويؤثر في السلوك والقرارات دون وعي مباشر.
في بيئات العمل، نخطئ حين نفسر الجفاف الإداري على أنه تعالٍ، وفي العلاقات نخلط بين البرود وبين الانطفاء، ننسى أن الإنسان حين يُنهك طويلاً، أول ما يخسره هو لطفه لا أخلاقه، وهنا يكمن الخطأ الأخطر، نحن نحاسب الناس على أعراض الإنهاك، لا على أسبابه، ونطالبهم بالهدوء والمرونة والابتسامة، دون أن نسأل متى ارتاحوا آخر مرة.
هذا لا يعني تبرير السلوك الخاطئ، ولا الدعوة لقبول الأذى أو الاستمرار معه، لكنه يلفت النظر إلى ضرورة الفهم قبل التفسير، فكثير من التصرفات لا تنشأ من فراغ، بل تتشكل تحت ضغط متواصل، وتسارع في الإيقاع، وتضخم في التوقعات، وكثرة مقارنات تستنزف الإنسان تدريجياً، ومع ذلك، يُنظر إلى الإنسان أحيانا وكأنه منفصل عما يمر به، وكأن المطلوب منه أن يؤدي أدواره كاملة دون أن يتعب أو يتوقف.
المشكلة تبدأ حين يُترك الإنهاك دون وعي، فيتحول مع الوقت إلى حالة داخلية ثابتة، يصبح الجفاء ردّة فعل، والتوتر أسلوب تعامل، ويبهت التعاطف دون أن ننتبه، فالإنسان الذي يركض بلا توقف، ويؤدي أدواره دون أن يمنح نفسه حق الراحة، يبدأ بالعطاء وهو فارغ، وبالتفاعل وهو متعب، والراحة هنا ليست ترفاً ولا ضعفاً، بل شرط للاستمرار، حين يتوقف الإنسان قليلاً، ويراجع نفسه، ويستعيد توازنه، يعود أقدر على العطاء، وأكثر حضوراً، وأقرب لإنسانيته، ويحتاج أحياناً أن يبطئ، ويستمع لجسده، ويمنح نفسه إذناً صريحاً بالتوقف المؤقت الواعي دون ذنب، فربما المشكلة ليست في قلوب الناس، بل في إرهاق لم يجد فرصة لأن يُقال.
متابعات