الوحدة في زمن التواصل

بقلم/شيماء المرزوقي

في الوقت الذي يعيش فيه العالم أكثر عصوره اتصالاً، حيث يمكننا التحدث إلى أي شخص في أي وقت وبأي مكان بكبسة زر، تشير الدراسات الحديثة إلى أن مشاعر الوحدة تزداد انتشاراً بشكل غير مسبوق، خاصة بين فئة الشباب. المفارقة أن منصات التواصل، التي كان يُفترض أن تُقرّبنا من بعضنا، قد تحوّلت في كثير من الأحيان إلى سبب لتعميق العزلة الداخلية.
وفقاً لدراسة أُجريت في جامعة بنسلفانيا، تبيّن أن تقليل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى 30 دقيقة يومياً لمدة ثلاثة أسابيع فقط، ساهم في انخفاض مستويات الشعور بالوحدة والاكتئاب لدى المشاركين، مقارنة بأولئك الذين استمروا في استخدام التطبيقات بشكل طبيعي. النتائج لم تكن مرتبطة بكمية التواصل، بل بجودته، مما يدل على أن التفاعل السطحي والافتراضي لا يُعوض العلاقات الحقيقية العميقة.
لكن الشعور بالوحدة لا يعني بالضرورة غياب الناس من حولنا، بل قد يحدث حتى في الأماكن المزدحمة أو داخل علاقات قائمة. فالوحدة تنبع غالباً من غياب التفاهم، أو من الإحساس بأنه لا أحد يعرفنا بصدق. وفي بيئة أصبحت فيها المحادثات سريعة ومقتضبة ومليئة بالمجاملات، قد يصعب علينا التعبير عن مشاعرنا الحقيقية، أو حتى إيجاد مساحة للأحاديث العميقة التي تمنحنا شعور القرب الإنساني الحقيقي.
المفارقة أن هذه العزلة لا ترتبط دائماً بسلوك سلبي من الآخرين، بل قد تكون نتيجة لاختياراتنا الشخصية، أو لطبيعة إيقاع الحياة الحديث. في خضم الانشغال اليومي، نؤجل اللقاءات، ونختصر المحادثات، ونستبدل الحوار المباشر بإعجابات وتعليقات. ومع الوقت تتلاشى الروابط العاطفية الحقيقية لنكتشف فجأة أننا محاطون بالكثير من الوجوه، لكننا لا نشعر بأن أحداً يصغي لنا بصدق.
غير أن الشعور بالوحدة، رغم قسوته، يمكن أن يكون أحياناً مساحة ضرورية لفهم الذات. فالخلوة قد تكون فرصة لمراجعة ما نريده فعلاً من علاقاتنا، وإعادة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية بشكل أكثر وعياً. بدلاً من السعي المحموم لملء فراغنا بأي تواصل، يمكننا أن نتعلم كيف نُحسن اختيار من نحيط أنفسنا بهم، وكيف نصنع روابط أكثر عمقاً وجودة.
الوحدة في زمن الوفرة ليست مجرد شعور عابر، بل إشارة إلى حاجة داخلية لم تُلبَّ بعد. وقد لا تكون الحلول الكبرى في المزيد من الاتصالات، بل في لحظة إنصات صادقة، أو حديث بلا شاشة، أو صديق يشعر بك دون أن تشرح كثيراً. ففي نهاية الأمر، لا يتعلق القرب بعدد الرسائل أو المتابعين، بل بوجود من يراك كما أنت، دون فلاتر.

متابعات

إقرأ ايضا

اخترنا لك
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى