هل يوقف صعود اليسار “المد اليميني” في القارة العجوز؟

رغم فوز اليسار في بريطانيا وفرنسا في ظل ظروف مختلفة، فإن خبراء اعتبروا أن موجة اليمين المتطرف مستمرة في التصاعد، نحو معظم الدول الأوروبية بما فيها ألمانيا.

في حين رجح فريق آخر أن يتلقى الاتحاد الأوروبي ضربة قاضية إذا خرجت ألمانيا أو فرنسا عن مسار اليسار، وذلك بعد صفعة خروج بريطانيا من البريكسيت في نهاية أكتوبر 2019.

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة “كليرمونت” بالولايات المتحدة الأمريكية هشام بوناصيف إن القلق على المشروع الأوروبي “الوحدوي” يأتي من انتصار اليمين الشعبوي أو المتطرف، ولا يأتي من جهة اليسار، مبيناً أن “اليسار الفرنسي يميل بشكل تقليدي إلى أوروبا، ويعزز التعاون الفرنسي الألماني”.

وأشار في حديثه  إلى أن اليمين المتطرف كان قوة ثالثة في الانتخابات، بينما كان الوسط القوة الثانية، واليسار القوة الأولى.

وتابع أنه من غير المرجح أن يكون هناك خوف في ألمانيا، وفي أوروبا بشكل عام من انسحاب أو تراجع الالتزام الفرنسي بالمشروع الأوروبي الوحدوي طالما أن الكفة مالت لصالح اليسار.

ولكن هذا لا يعني عدم حدوث ارتدادات على أوروبا، وعلى العلاقة مع ألمانيا بشكل خاص، بحسب الأكاديمي بوناصيف.

 وأوضح: “الارتدادات ستكون من جهة أخرى، في ظل عجز أي طرف على تشكيل حكومة موحدة بفرنسا، حيث يتجه الوضع في هذا البلد إلى المزيد من التأزم بسبب نتائج الانتخابات”.

الدعم العسكري لأوكرانيا

وحول احتمال حدوث توتر في العلاقات بين باريس وبرلين مع صعود نجم اليسار المتطرف الرافض للدعم العسكري لأوكرانيا، مقابل الموقف الألماني الحذر، نوه الأكاديمي بوناصيف إلى أنه “تقليديًّا هناك في فرنسا مبدأ (التعايش)، عندما يكون رئيس الجمهورية من حزب ورئيس الوزراء من حزب آخر، حيث يبقى رئيس الجمهورية هو المخول باتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية والدفاعية، في حين تبقى السياسة الداخلية من صلاحيات رئيس الوزراء”.

وأردف، “ماكرون صرح بأنه لن يستقيل، لذلك سيبقى الدعم لأوكرانيا مستمرًّا، لكن المشكلة الآن هي أنه لا الوسطيون ولا اليساريون ولا اليمينيون قادرون على تشكيل حكومة، إذ دخلت فرنسا بمرحلة ضبابية غير مسبوقة في تاريخها، على الأقل في تاريخ الجمهورية الخامسة”.

ولفت إلى أن ماكرون ألمح لفكرة إرسال جنود فرنسيين لتدريب نظرائهم الأوكرانيين، لكن الخطوة لقيت رفضًا من مارين لوبان التي تلقت صفعة قوية بدورها، بسبب نتائج الانتخابات، قائلًا “هي لن تصل للسلطة بطبيعة الحال، حاليًّا على الأقل”.

وأشار إلى أن دور ماكرون تراجع في ظل هذه الأحداث، كما إنه تلقى صفعة أخرى، وفق تعبير الأكاديمي، مضيفًا: “لكن أن يتجه هو وحزبه للاختفاء مجرد مبالغات، حيث إن حزبه لا يزال يحتفظ بوزن في البرلمان الفرنسي، كما إن الرئيس الفرنسي (تقليديًّا) يبقى المسؤول عن القضايا الدفاعية والخارجية”.

وتابع: “أميل إلى التقدير بأن الدعم الفرنسي لأوكرانيا لن يتغير، ولكن الخطر المباشر على التعاون الفرنسي الألماني، وعلى دعم أوكرانيا انتهى عمليًّا”.

وكان رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أبدى ارتياحه إزاء نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، وكتب على “إكس” يقول: “هناك شعور بالحماسة في باريس وخيبة أمل في موسكو وارتياح في كييف، هذا كاف لأن نكون سعداء في وارسو”.

وقال بوناصيف عن تصريح توسك، “هي تقديرات صحيحة، وكييف كانت تخشى خسارة فرنسا، وهذا لم يحدث، والخطر الأكبر هو من عودة دونالد ترامب للسلطة في أمريكا، بسبب ميوله المؤيدة لروسيا”.

انتخابات ألمانيا 2025

وحول المتوقع في انتخابات ألمانيا البرلمانية عام 2025، قال “كل التوقعات قد تخيب. من كان يصدق أن اليمين الفرنسي قد يحصل له ما حصل، رغم تفوقه في استطلاعات الرأي، وليس بالضرورة أن يتحقق سيناريو انتشار موجة اليمين المتطرف في أرجاء أوروبا لتأكل الأخضر واليابس، بدليل أن هذا لم يحدث في إسبانيا، كما إنه لم يحدث في بريطانيا”.

واستبعد بوناصيف انهيار الوسط واليسار الألماني، وحصول موجة قوية تعيد برلين لزمن اليمين المتطرف، لكن استمرار أزمة اللاجئين والأزمات الاقتصادية قد تؤدي إلى تعزيز قوة اليمين الشعبوي في ألمانيا وغيرها، لكن دون إحداث موجة تجتاح كل شيء، وفق قوله.

وأوضح أن ألمانيا بحاجة إلى أوروبا، وفرنسا تحتاج أوروبا، ما يعني أن ألمانيا تحتاج فرنسا والعكس صحيح، وكل القوى اليسارية الملتزمة بالمشروع الأوروبي تخشى فوز مارين لوبان في فرنسا كما تخشى حزب البديل من أجل ألمانيا.

وأشار إلى أن تماسك الاتحاد الأوروبي الذي تلقى صفعة سابقة بخروج بريطانيا من الاتحاد، سيتلقى ضربة قاضية إذا خرجت ألمانيا أو فرنسا عن مسار اليسار.

هواجس الأوروبيين

من جهته، يقول الخبير السياسي مروان الأمين إن صعود اليسار في بريطانيا وفرنسا ليس صعودًا طبيعيًّا أو ثابتًا، مبينًا أن الصعود الثابت في أوروبا هو صعود اليمين المتطرف، مشيرًا إلى أن “الأرقام التي حصل عليها اليمين المتطرف في فرنسا هي الأعلى بين الفرنسيين، لكن بسبب قانون الانتخابات الفرنسي المعدل، حُرم اليمين من الأكثرية، وهذا نتيجة لمجموعة من السياسات الخاطئة التي ارتكبتها السياسة الماكرونية في فرنسا”.

وأضاف الأمين، في حديثه  أن هناك مجموعة من العوامل التي تشكل هاجسًا لدى الفرنسيين والألمان والأوروبيين بشكل عام، وهي القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي التي تدهورت نتيجة للحرب الأوكرانية والحرب في غزة، إضافة إلى عوامل أخرى مثل موضوع الهجرة، وصعود الإسلام السياسي في مجموعة من الدول الأوروبية، وجميعها أمور شكلت مصدر قلق كبير لبعض فئات المجتمع الأوروبي، التي دفعت باتجاه اليمين المتطرف، على حد قوله.

الأكثرية الشعبية لليمين

ولفت إلى أنه بالتعاطي الحيادي مع الموضوع، فإن الأكثرية الشعبية بفرنسا هي مع اليمين المتطرف، والأكثرية هذه بحالة تنامٍ نتيجة لهذه العوامل.

وأضاف: “الأحزاب التقليدية، سواء اليمين الوسط، أو اليسار الوسط، لم تقدم حلولًا جدية للشعوب، خصوصًا للفئات العمالية أو للطبقة الوسطى، وهذه الفئات مهددة بموضوع القدرة الشرائية”.

وأوضح “اليمين المتطرف قادر على أن يحاكي غرائزها بموضوع الأمن والاستقرار”.

وحول حظوظ جان لوك ميلانشون، قال الأمين إنها “شخصية جدلية شعبوية تحاكي غرائر المهاجرين والمسلمين، وهي شخصية غير واقعية ولا علمية”، مضيفًا “أطروحاته فيها بعض من الخيال، وأبرز مثال عندما طالب ماكرون بتسليم اليسار رئاسة الحكومة، رغم أنه ليس لديه الأكثرية البرلمانية”.

ولفت مروان الأمين إلى أن كلًّا من ميلانشون واليسار المتطرف واليمين المتطرف، يتنافسون على الفئة الشعبية ذاتها، وهي الفئة العمالية والطبقة الوسطى، مبينًا “فشل اليسار المتطرف في أوروبا سمح لليمين المتطرف بملء الفراغ والانتقال للفئات العمالية والطبقة الفقيرة والمزارعين، حيث إن معظم الأصوات التي حصدها اليمين هي من الأرياف ومواقع السكان الأقل تعليمًا”.

الاتحاد الأوروبي يتزعزع

حول الانقلاب الذي حصل في الانتخابات التشريعية الفرنسية بين الدورة الأولى والثانية، أبان الخبير السياسي أنه كان نتيجة تكتل هجين طرأ بين قوى اليسار، إضافة إلى الخيار السيئ الذي اتخذه الرئيس ماكرون مع المجموعة التي شكل منها اللوائح الانتخابية.

وأكد الأمين أن موجة اليمين المتطرف دخلت على أوروبا وهي مستمرة ومتجهة نحو التصاعد، وستطال معظم الدول الأوروبية بما فيها ألمانيا ولاحقًا إسبانيا، وإيطاليا التي سبق لها أن مرت بهذه الموجة.

في السياق، شدد مروان الأمين على أن ألمانيا وفرنسا يشكلان “النواة الصلبة” للاتحاد الأوروبي، قائلاً: “الاتحاد بات يتزعزع منذ خروج بريطانيا منه، كما إن خطاب اليمين المتطرف في معظم الدول الأوروبية الذي يطالب بأن يعود إلى المصلحة الوطنية لكل دولة، شكل تهديدًا وجوديًّا لتماسك الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن دولًا، مثل: إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال، مضت في أزمات اقتصادية دفعت لتدخل الاتحاد الأوروبي لدعم هذه الاقتصادات؛ ما دفع اليمين المتطرف في الدول الغنية، مثل: ألمانيا وفرنسا، لطرح إشكالية تحويل رؤوس أموالها للخارج بدلًا من أن يستفيد مواطنو دولهم منها”.

مشاعر مختلطة في ألمانيا

من جهته، قال الباحث بمركز الحبتور للأبحاث في القاهرة، مصطفى أحمد، إنه رغم إعراب المستشار الألماني أولاف شولتس عن ارتياحه لتحول فرنسا إلى اليسار في نهاية هذا الأسبوع، فإن ردود الفعل في ألمانيا تظهر أنها مختلطة، مضيفًا “لدى ألمانيا مخاوف كبيرة بشأن السياسة الاقتصادية والمالية إذا تولى الائتلاف اليساري السلطة. إن فرنسا مثقلة بالديون بالفعل، وقد قدم الائتلاف اليساري وعودًا انتخابية باهظة الثمن، والتي من المرجح أن تسبب احتكاكًا على مستوى الاتحاد الأوروبي”.

وأشار أحمد في تصريح لـ”إرم نيوز” إلى أنه في العام الماضي، بلغ الدين الجديد 5% من الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا، وأن العديد من الوعود الانتخابية لهذا الائتلاف اليساري ستكون مكلفة للغاية، مستطردًا: ” على سبيل المثال، رفع الحد الأدنى للأجور، وخفض سن التقاعد إلى 60 عامًا؛ ما يتعين على فرنسا وألمانيا الآن التعامل مع هذه المخاوف معًا”.

التقارب الفرنسي الألماني

واعتبر الباحث مصطفى أحمد أن التقارب الفرنسي الألماني يواجه بالفعل تحديًا كبيرًا، بسبب الاضطرابات السياسية في فرنسا والمواقف المتباينة بشأن الدعم العسكري لأوكرانيا، حيث يعارض حزب فرنسا الأبية المتشدد دعم المساعدات العسكرية لأوكرانيا على خلاف نهج ألمانيا الأكثر حذرًا.

وأضاف: “هذا يمكن أن يخلق احتكاكات بين البلدين؛ ما يعيق التعاون الوثيق بينهما، ففي الآونة الأخيرة، تابع رئيس حزب فرنسا الأبية رواية موسكو فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، قائلاً إن روسيا مهددة من قبل الناتو، وانتقد بشدة شحنات الأسلحة التي يرسلها الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا”.

 كما يمكن أن يؤدي خطاب الحزب إلى تأجيج المشاعر القومية داخل فرنسا بحسب مصطفى أحمد، مردفًا: “قد تعطي مثل هذه المشاعر الأولوية للمصالح الوطنية على التعاون الأوروبي، ما يزيد تعقيد التقارب”.

وأكد أن كل هذه الظروف قد تجعل مستقبل التقارب الفرنسي الألماني غير مؤكد، ورغم أن الوضع الحالي يفرض تحديات كبيرة، فإن العلاقات الاقتصادية العميقة، والمصالح الأوروبية المشتركة، وإمكانية التوصل إلى تسوية، تقدم بصيصًا من الأمل، بحسب الخبير المصري.

 وأضاف: “ستكون الأشهر المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كان بإمكان البلدين التغلب على هذه العقبات وإقامة علاقة أوثق”.

وحول الفوز التاريخي لليسار الفرنسي، أكد الباحث في مركز الحبتور أنه يعني وجود حصن مناهض لليمين المتطرف قادر على حماية الكتلة الأوروبية من أي صدمة سياسية، مردفًا: “بعد أن أظهرت النتائج فوزًا مفاجئًا حققه التحالف اليساري الفرنسي في الانتخابات التشريعية، تنفست الصعداء العديد من دول أوروبا.

وقال: “كان الوسطيون يخشون أن يؤدي صعود اليمين المتطرف المحتمل إلى الحكومة في فرنسا – ثاني أقوى اقتصاد في الاتحاد الأوروبي – إلى زرع بذور عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي وتقويض الدعم القوي الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا، وهو ما سيكون له انعكاسات على الانتخابات الألمانية القادمة”.

تدهور العلاقات بين برلين وباريس

أما عن تحذيرات المستشار الألماني والنخبة الألمانية من صعود اليمين، ومباركتهم نتائج اليسار المتطرف، أكد أنها أمر طبيعي، “لأنه في حال منح الفرنسيون الحزب القومي اليميني المتطرف الأغلبية، فمن المرجح أن تتدهور العلاقات الألمانية الفرنسية”.

وزاد مصطفى أحمد: “ستكون الآثار محسوسة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، حيث انحرف العديد من دول الاتحاد الأوروبي، مثل: إيطاليا وهولندا والسويد، نحو اليمين في الانتخابات الوطنية، حين أدلى الناخبون بأصواتهم للأحزاب المتشككة في الاتحاد الأوروبي التي وعدت بحلول قومية للقضايا الأوروبية مثل التضخم والهجرة والحرب الروسية الأوكرانية التي جلبت ملايين اللاجئين إلى أوروبا باحثين عن مأوى”.

وختم بالقول: “كانت المخاوف المتعلقة بتقدم حكومة يمينية متطرفة في فرنسا إلى تعزيز أحزاب اليمين المتطرف بشكل عام، رغم تباين أدائها من بلد إلى آخر”.

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى