أعني بأمور الحج تلك المتعلقة بشأن الحجاج العام بما يحقّق – بإذن الله – أمنَهم وسلامتَهم، وييسّر تنقلاتهم وجودةَ خدماتِهم، وأداءَهم لنسكهم بأمانٍ وسكينةٍ، ولست أعنِي مسائلَ المناسكِ التي للمذاهب الفقهية حوارٌ علميٌّ عنها؛ تتَّفق أو تختلف.
إذن هذه الأمور التي نتحدَّث عنها مناطُها تحقيقُ المصلحةِ العامة لحجاج بيت الله، وإذا كانَ مناطُها تحقيقَ هذه المصلحة، فإنَّها موكولة إلى ولي أمرِ هذه البلادِ المملكة العربية السعودية، التي تشرف بخدمةِ الحرمين الشريفين، وتضطلع بحراسةِ المشاعر المقدسة، وتحافظ على أداءِ المسلمين لشعيرة الحج في أجواء إيمانيةٍ وتعبديةٍ خالصة لله تعالى من دون تشويشٍ أو تكدير.
ومن هذا المنطلق؛ أي من منطلق أنَّ وليَّ أمر هذه البلاد منوط به تحقيقُ مصالحِ الحج، فإنَّ الإفتاء من دون إذنِه في هذه الأمور بما يعارض المصالحَ التي يسعى لتحقيقها في سبيل أمن الحجاج وراحتِهم، وحفظ هذه الشعيرة وسلامتِها، هو من الافتئاتِ عليه، ومن تعدي حدودِ الله التي حدَّها وأمر بالوقوف عندها، فأولاً: قد أمر اللهُ عزَّ وجلَّ بطاعةِ ولي الأمر فيما يأمر به من مصالح العباد، ويدفع الفسادَ عنهم، قالَ الله عزَّ وجلَّ: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، وهذه الأنظمة والتعليمات التي يضعها ولاةُ أمر هذه البلادِ المملكة العربية السعودية داخلةٌ في طاعة ولي الأمر، فإنَّ الولاية لهم في الحرمين الشريفين، وكلُّ مسلمٍ حجَّ بيتَ الله الحرام يجب عليه التزام هذه الأنظمة لهذه الآية الكريمة، ولكونِ ولي الأمر ما وضعَ هذه الأنظمة إلا لسلامة الحجاج وسلامةِ نسكهم.
وثانياً: فإنَّ الإفتاء في أمور الحج العامة يتطلَّب اطلاعاً واسعاً ومتعدد الجهات، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذه الاطلاع الواسع والمتعدد لا يمكن أن يتكوَّنَ إلا بالاتصال بجهات متعددة ومتنوعة لترسم الصورة الكاملة، كالجهات الأمنية، والصحية، والخدمية، والتشغيلية وغيرها، وهذا ما صنعته هيئة كبار العلماء، حينما كانت بصددِ إصدار الفتوى المتعلقة بالحج من دون تصريح؛ فقد استدعت ممثلي الجهات الأمنية، والجهات المعنية بشؤون الحج والحرمين الشريفين، وقد حضر هؤلاء الممثلون وعلى مستوى عالٍ، وشرحوا للهيئة شرحاً وافياً المشكلات الكثيرة التي تحصل بسبب الحجاجِ غير النظاميين الذين يحجُّون من دون تصريح، وبعد أن استمعتِ الهيئةُ إلى هؤلاء المسؤولين، وناقشتهم في تفاصيلَ دقيقة أصدرت فتواها التي نُشرت بوقتٍ كافٍ قبل موسم الحج إعلاماً للمسلمين بأنَّه لا يجوز الذهاب إلى الحج من دون تصريح، وأوضحت ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والقواعد الفقهية.
وثالثاً: فإنَّ المسؤولَ عن أمن الحجاج منذ أن يطأوا ثرى هذه البلاد وإلى أن يرجعوا إلى بلادهم، هم ولاة أمرِ هذه البلاد، ومن ثم فإنَّ الإفتاء في أمور تتعلَّق بنظام الحج العام في عددهم وتنقلاتهم وسكنهم هو من الافتئات عليه، ومن التجاوز على صلاحياته، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، فهذا الذي يفتي من خارج حدود هذه البلاد، بما يعارض النظامَ الذي حدَّه ولي الأمر قد أساء وتعدَّى وظلم.
إنَّ هؤلاء الذين غرَّروا ببعض المسلمين في أن يحتالوا على النظام العام ويحجُّوا بغير تصريح، بما تسبب في تعريضهم للتهلكة تحت أشعة الشمس الحارقة، قد باءوا بإثم عظيم، وتقلّدوا جرماً كبيراً؛ فإنَّهم سارعوا إلى فتوى غير مسؤولين عنها ابتداء؛ بل هم متجرئون عليها، ثم إنهم أفتوا على غير علم؛ فإنَّ المفتي لا يتمكن من الفتوى إلا بفهم واقع الموضوع، ثم بمعرفة الواجب في هذا الموضوع، ولا شكَّ أن هؤلاء البعيدين عن شؤون الحج لا يدركون واقعَه والتحديات التي تواجهه.
ومن ثم كانت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هي المسؤولةَ عن الفتوى في هذا الخصوص بما أناطَه ولي أمر البلاد بهم من واجب، وبما يتحقق لهم من الاطلاع على الجوانب كافة؛ وكانت فتوى تصريح الحج مثالاً للتوفيق والسداد، الذي تفضل الله عزَّ وجلَّ به على هذه الهيئة، التي كانت – دائماً – تتَّسم فتواها بالرصانة والرزانة، وتتغيَّا المصالح العامة، ولا ترتجَّل الحكم، بل تستند إلى الشَّرع المطهر. والله ولي التوفيق.