تشهد مدنٌ سعودية زخما عقاريا ملحوظا على مستوى قطاعات البناء والتشييد، ساهم في نمو وتطور عدد من الأنشطة الاقتصادية بالبلاد، غير أنه انعكس على أسعار إيجارات الوحدات السكانية التي تُواصل الارتفاع شهرا تلو الآخر، في ظل تزايد الطلب عليها.
وكان أثر التحولات الجديدة التي تعرفها مجموعة من المدن السعودية، وخاصة العاصمة الرياض، ملموسا بشكل خاص على الأوضاع الاجتماعية لبعض المقيمين الأجانب بالبلاد، الذين تغيرت حياتهم في ظل التطورات الجديدة التي فرضت عليهم واقعا اجتماعيا واقتصاديا جديدا.
وتحدث عدد من المقيمين الأجانب بمدينة الرياض لموقع “الحرة” عن ارتفاعات كبيرة عرفتها أسعار الإيجار بعدد من الأحياء المتوسطة بالمدينة، كما هو الشأن بالنسبة ظهرة لبن وحي عرقة وحي النخيل، والتي كان إيجار شقق بها إلى وقت قريب بمتناول يدهم، قبل أن تضطرهم “طفرة الزيادات” للبحث عن أماكن أخرى بعيدا في ضواحي العاصمة السعودية.
من بين هؤلاء “محمد” (اسم مستعار)، وهو شاب في الثانية والثلاثين من عمره، انتقل للعمل في السعودية قبل سنتين، ويؤكد أنه لاحظ خلال المدة الفاصلة بين وصوله إلى البلد في عام 2021، والأشهر الأخيرة خلال بحثه عن مسكن جديد “الفرق الكبير على مستوى الأسعار”.
ويضيف “محمد” الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي، أن الزيادات التي عرفتها أحياء العاصمة السعودية، لم تقتصر على المناطق المتوسطة أو الفاخرة، بل طالت حتى الشعبية منها، مع قرار فئات واسعة الانتقال إليها لانخفاض الأسعار العامة بها مقارنة بمناطق أخرى، مما تسبب في تضخم الإيجارات بها أيضا.
ويكشف المتحدث ذاته أن عددا من المقيمين، خاصة ذوي الدخل المنخفض “كانوا الأكثر تضررا من الارتفاعات الأخيرة التي لم يوازها أي زيادات في الأجور، عكس الموظفين المحليين الذين تمت مراجعة أجورهم قبل أشهر قليلة”.
وإلى حدود شهر يونيو الماضي، تكشف بيانات هيئة الإحصاء الحكومية، أن الارتفاعات الفعلية للمساكن واصلت وتيرتها التصاعدية للشهر السادس عشر على التوالي، حيث قفزت بمعدل 10.8 بالمئة، مدفوعة بزيادة أسعار إيجارات الشقق بنسبة 22.8 بالمئة، حي وتمثل الأرقام المسجلة منذ بداية العام الجاري الأعلى منذ عام 2013.
“غير مبررة”
الخبير الاقتصادي، علي الحازمي، يرى أن “شكوى بعض المقيمين من ارتفاع الأسعار في الوقت الحالي غير مبررة”، مستدركا أن الدولة “واعية بهذه المسألة وتعمل على معالجتها على مستوى عدد من الأنظمة والإجراءات والتشريعات”.
ومنذ عام 2016، منحت السعودية عقود بناء بقيمة 250 مليار دولار، عندما شرعت في خطة طموحة لبناء مشاريع ضخمة وتقليص اعتمادها على البترول.
وأعلنت الرياض عن مشاريع عقارية وبنية تحتية بقيمة 1.25 تريليون دولار في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك مدينة نيوم الجديدة عالية التقنية، على الساحل الغربي للمملكة، وفقا لما نقلته وكالة بلومبرغ عن شركة “نايت فرانك إل إل بي” للاستثشارات العقارية.
وتعهدت المملكة بإنفاق مئات المليارات من الدولارات على بناء مدن جديدة، كما أنها تطلق شركة طيران جديدة ومطارا حديثا كجزء من خطة 2030 التي يقودها ولي العهد الأمير، محمد بن سلمان.
ويوضح الحازمي، في تصريح لموقع “الحرة”، أن الارتفاعات المسجلة تأتي في ظل هذه الدينامية الكبيرة التي يشهدها سوق العقارات بالبلاد.
وشدد على أنها “لا تشمل المقيمين دون سواهم بل يتأثر منها كل سكان البلاد، بمن فيهم المواطنين”، مضيفا أن رئيس هيئة العقار ووزير الإسكان المحليين لفتا مؤخرا أيضا إلى هذه الارتفاعات، التي قال إنها “ليست في صالح الاقتصاد السعودي”.
في هذا الجانب، يضيف الخبير الاقتصادي أن المملكة تؤمن أنه بمجرد أن يحصل المقيم على إقامته في البلد، فهو جزء لا يتجزأ منها ومن تنميتها الاقتصادية، لذلك على الجميع أن يوقن أنه “ليست هناك إيجارات لمقيمين وأخرى لمواطنين، بل الكل سواسية ولا تفرقة بينهم”، إلا من خلال العرض والطلب.
تباين العرض والطلب
وفيما يعتبر المتحدث ذاته أن ارتباط الارتفاعات الحاصلة بـ”تشوهات سابقة” في سوق العقار وأن الدولة تعمل في إطار “رؤية 2030″، على إصلاحات تشريعية وتنظيمية، بما يخدم جميع الأطراف، سواء مواطنين أو مقيمين، يوضح الخبير العقاري، أيمن المؤمن، أن هذه الطفرة “متوقعة وطبيعية” بالنظر إلى ارتفاع الطلب مقابل انخفاض العرض، ما أدى إلى تضخم الأسعار.
ويكشف الخبير العقاري، في تصريحه لموقع “الحرة”، أن سوق العقارات في “تحسن دائم”، انتقل معه معدل السعر الوسطي للمتر بالعاصمة من 420 ريال (حوالى 110 دولار أميركي) في عام 2009 إلى 4 آلاف ريال (حوالى 1000 دولار أميركي) خلال العام الجاري.
وتخطط السعودية لبناء 660 ألف منزل، وهو ما يعادل تقريبا إجمالي المعروض السكني في دبي المجاورة، وإضافة 289 ألف غرفة فندقية، و6 ملايين متر مربع من المكاتب، و5.3 مليون متر مربع من مساحات البيع بالتجزئة، وفقا لشركة نايت فرانك.
ومنذ عام 2016، تم منح عقود بقيمة 70 مليار دولار لبناء أجزاء من مدينة “نيوم الحديثة، وإطلاق أعمال بقيمة 21 مليار دولار من طرف شركة “ريد سي غلوبال” لتطوير السياحة على طول الساحل الغربي، بحسب أرقام الشركة ذاتها.
ويغطي مشروع البحر الأحمر، الذي تم الإعلان عنه لأول مرة في عام 2017، مساحة 28 ألف كيلومتر مربع – وهي مساحة تعادل مساحة بلجيكا، وسيكلف بناءه 23.6 مليار دولار.
في هذا الجانب، يربط المؤمن بين تزايد الطلب على الإيجار في المدن السعودية، وخاصة بعاصمة البلاد، ومشاريع رؤية 2030 التي حفزت الاستثمار، بالإضافة إلى الأنشطة والفعاليات الكبيرة التي تستقطب سياحا ويدا عاملة جديدة إلى البلاد.
ويوضح المتحدث ذاته أن اختلاف الإيجارات يتغير من منطقة ومدينة إلى أخرى، مشيرا إلى أنها بالعاصمة الرياض “تبقى أكثر من غيرها”، مشيرا إلى استقطابها شركات ومكاتب دولية.
مشاريع قادمة
وتشير تقديرات “نايت فرانك” إلى أنه من المتوقع الانتهاء من مشاريع عقارية بقيمة 687 مليار دولار، بحلول نهاية العقد الجاري.
وتلفت وكالة بلومبرغ، إلى أن التحدي الذي يواجه مطوري هذه المشاريع يتمثل في تلبية احتياجات المشترين المحليين وجذبهم، حيث أن “ثلثيهم لديهم ميزانيات تقل عن 1.5 مليون ريال (400 ألف دولار)”، بحسب، هارمن دي يونج، رئيس القسم الاستراتيجي والاستشاري في “نايت فرانك” بالسعودية.
في نفس السياق، يؤكد رئيس القسم الاستراتيجي بنفس الشركة، عبد الله دوراني، أن القدرة على تحمل تكاليف المنتجات العقارية الجديدة “ستكون عقبة رئيسية في البلد الذي يشهد انخفاضا في مبيعات المنازل”، مضيفا أن “نقاط السعر التي سيتم تحديدها ستبقى أمرا بالغ الأهمية والحساسية”.
وتابع لوكالة “بلومبرغ” أنه في وقت يتوقع فيه أن “تطلق فيه معظم مشاريع منتجات سكنية تقدر بأكثر من مليون دولار، فإن سد هذه الفجوة بين الطلب والتوقعات سيظهر بلا شك كاعتبار رئيسي للمضي قدما” في هذه المشاريع.
في هذا الجانب، يلفت الخبير الاقتصادي السعودي، علي الحازمي، إلى أن إطلاق هذه المشاريع لا يتعلق بـ”مواطن أو مقيم”، بل إن سعرها قد يكون مرتفعا بالنظر إلى أنها موجهة لفئات طبقية معينة هي وحدها القادرة على أداء تكاليفها، موضحا أنه بالمثل هناك مشاريع موجهة للطبقات المتوسطة.
ويتابع الحازمي حديثه بالإشارة إلى “أنه ستكون هناك خيارات مناسبة لجميع الفئات الاجتماعية”، غير أننا ما زلنا “في بداية الطريق، حيث أن هذه المشاريع لا تزال في طور التشييد والإعداد”.
ويضيف أن الهدف من هذه البرامج خلق استثمارات ودعم القطاعات السياحية والترفيهية والاجتماعية، مؤكدا أن “مشاريع التشييد والقطاع العقاري جزء لا يتجزأ من النمو الاقتصادي ومن معادلة الناتج المحلي الإجمالي للبلد”.