نماذج من كفاح اليمنيات في زمن الحرب!!

تمر عليَّ الكثير من القصص، التي ينقلها صحافيون وكُتاب شبان من أنحاء متفرِّقة من اليمن، عن أحوال الناس في واقع حرب سلبت من الجميع، ليس اللقمة والعيش والأحلام النبيلة فقط، بل كل ما راكموه -طيلة عقودهم- من مكتسبات شحيحة في مناحي الحياة المختلفة، وسدت أمامهم كل أبواب المستقبل؛ خدمة لمشاريع التفكيك والتقويض، بسبب استدامة الحرب.

ومع كل ذلك، لم تستطع الحرب كسر الأحلام نهائياً، لأن قصص المقاومة وعدم الاستسلام، التي تظهر هنا وهناك، تقول ذلك، والنساء بشكل أخص سطرن الكثير من قصص النجاح والصمود، حتى إنهن فرضن واقعاً جديداً كما تذهب إلى ذلك إحدى الباحثات، التي تتبعت أنشطة ومِهنَ لم تكن مسموحا للنساء مزاولاتها قبل سنوات الحرب، فالحاجة وظروف الحياة القاسية والرغبة في المقاومة جعلتهن يخضن غمار أعمال كانت “مستنكفة” في الوعي الذكوري..

تقول الباحثة والناشطة بلقيس العبدلي:
“رغم الصورة القاتمة، التي تعرض حال النساء والفتيات في اليمن كمتضررات من الحرب، فإنّ للحرب وجهاً آخر دفع بالمجتمع اليمني طواعية إلى تقبُّل أدوار اجتماعية جديدة للنساء في اليمن، لم يكن ليتقبٍَلها لولا الظروف التي أنتجتها الحرب، التي أظهرت حاجة الرجل إلى عملها جنباً إلى جنب معه، كصانعة ومتخذة للقرار، وليس فقط كمنفذ له”.

وتضيف: “فأعالت النساء أسرهن، وتحمّلن الكثير من القرارات الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة تبعات الحرب، وشغلن وظائف لم يكن لها قبول اجتماعي واسع من قَبل، حيث عملت النساء كنادلات في المطاعم وبائعات للأكلات الشعبية في الأسواق العامة، وفتَحْن مشاريع خاصة ومحالًّ تجارية مختلفة لخياطة الملابس والتجميل والتصوير، وتعهُّد المناسبات والأفراح، بالإضافة إلى فتحهن مشاريع نوعية كالمقاهي والمطاعم ومحال إصلاح الجوالات، التي تعد بعضها مختلطة، وليست مخصصة للنساء فحسب”.

مَثُل أمامها، وهي تنتج هذه الدراسة، أكثر من أنموذج على نحو فوز امرأة -لأول مرّة- في اليمن بمناقصة لرصف وشق طريق في مديرية جبل حبشي بمحافظة تعز، لتكسر بذلك احتكار الرجال مجال المقاولات، وعن هذه السيدة (زبيدة اللحجي) عمل لؤي سلطان تقريراً صحفياً، ومما جاء فيه:
“خاضت زبيدة اللحجي (55 سنة) تجربة اقتحام مجال المقاولات، كأول امرأة يمنية تنافس الذكور في هذا المجال الحيوي، الذي كان حكراً على الرجال دون النساء، حتى قررت اللحجي أن تجرِّب حظوظها في مجال المقاولات، وهو ما نجحت فيه من خلال العمل بمشروع خاص، من تنفيذ الصندوق الاجتماعي للتنمية (حكومي)، برصف إحدى الطرق بمحافظة تعز”.

تقول اللحجي: “كانت هذه التجربة بمثابة مغامرة حقيقية، خضتها بكل حماس وجدية، دفعني إليها أكثر، الحماسُ الذي لاحظته من الجميع حول ضرورة إشراك المرأة في مجالات العمل والمقاولات”.

اكتسبت زبيدة، التي تعمل على تطوير قدراتها باستمرار، تجاربَ سابقة من أعمال مقاولات بسيطة إلى جانب تجارب سابقة لها في أعمال تجارية متنوِّعة”.

قبل يومين، مر عليَّ أيضاً تقرير من منطقة المضاربة ورأس العارة الساحلية بمحافظة لحج لمحيي الدين فضيل؛ عن اشتغال النساء بالاصطياد في منطقة “خور عُميرة”، تقول إحداهن إنها تغادر مع زميلاتها باكراً، السادسة فجراً، نحو الساحل للاصطياد، حيث أُجبرت على ذلك، بعد أن تضاعفت المهام والأعباء عليها، عقب وفاة معيلها، الذي كان رفيقا لها في عملية الاصطياد، خلال السنوات القليلة الماضية.

تقول إنّ معرفتها بعملية الاصطياد قديمة عندما كانت في الثانية عشرة من عُمرها، حيث كانت تذهب برفقة أسرتها في عملية جلب الصيد من البحر.

تقضي نصف اليوم في البحر، في مهمّة شاقة للحصول على الصيد؛ قبل أن تعود وقت الظهيرة لتناول وجبة الغداء، ومِن ثَمّ التوجّه مرّة أخرى إلى البحر، والبقاء هناك إلى قبل حلول المساء، والعمل في الحالتين متوقفٌ على توفّر كمية الوقود المناسبة لتشغيل قارب الصيد؛ للتوجُّه نحو البحر.

وأخرى من المنطقة ذاتها تعمل في صناعة “شِباك”، تقول -في السياق نفسه- إنها تمتهن هذه المهنة منذ ما يزيد عن 20 عاماً، حيث قام والدها بتعليمها، واستمرت في ممارسة هذه المهنة إلى أن أصبحت مُدَرِّبة في هذا المجال، وتشارك في تدريب وتأهيل فتيات من مختلف هذه المناطق.

امرأة ريفية في محافظة صنعاء كسرت القاعدة في إحدى القرى، وافتتحت دكانا لبيع الملابس، في سابقة غير معهودة في محيط قبلي مغلق يجرِّم عمل المرأة خارج شؤون المنزل ومتطلباته، تقول عن ذلك: “بعد مقتل زوجي في إحدى جبهات القتال، غادرت منزل أبي، بعد أن رفض وجودي مع ابني عندهم؛ لذا اضطررت إلى الرجوع إلى البيت، الذي كنت أسكنه مع زوجي، وهو بيت صغير تابع لبيت والده، هنا جاءت فكرة تأسيس مشروع خاص بي، أستطيع من خلاله أن أعيل نفسي وابني، هذا المشروع هو معرض لبيع مستلزمات النساء والأطفال من ملابس وأحذية وأدوات تجميل، حيث جمعت أسرتي لي مبلغاً لتجهيز أحد الأماكن، الذي كان مخصصاً للماشية، فقمت بتجهيزه، ابتداء بوضع تخشيبة، ومن ثَمّ تعبئته بالبضاعة، التي كانت أختي الكبرى تتولى مع زوجها شراءها من العاصمة صنعاء”.

تضيف: “الفكرة كانت جديدة على سكان القرية، وقد اعتبرها البعض تمرداً وخروجاً عن العادات المجتمعية، لكن البعض تعاطف معي؛ كوني مسؤولة عن نفسي وعن ابني، واجهت تحدِّيات كبيرة، خاصة أنّ الحياة في القرية تتطلب جهداً ومشقة في جلب المياه، والحطب ورعاية الماشية، لكني تغلبت على كل هذا، وخصّصت وقتاً لفتح متجري الصغير من بعد العصر إلى قبل المغرب، وهو الوقت المناسب لي ولنساء القرية، بعد التفرّغ من أعمالنا المنزلية”.

كتب، قبل أشهر، الصديق عدنان حجر عن تجربة ملهمة لفتاة من الحديدة، انتقلت هي وزوجها إلى عدن، وتوفي هناك، ولم يكن أمامها سوى خوض الكثير من المشاق لتربية أطفالها، فعملت في العديد من المهن البسيطة، قبل أن تتأهل وتصير مصوِّرة ومتخصصة بالمونتاج: “الأرملة وأم الأيتام كان لها طموحات مشروعة تريد أن تحقّقها، وهو البروز والإبداع والتفوّق والعيش الكريم، كما كانت تحمل على عاتقها تحقيق حلم زوجها، وهو دراسة المونتاج وممارسته”.

وأضاف: “فجاءت الفرصة، كما قالت كاميليا، بواسطة فاعل خير، فتم إشراكها وإدراجها في مؤسسة للأعمال الخيرية، والتأهيل للأم، التي تعيل أبناءها الأيتام، وتمكّنت من تجاوز فترة التأهيل بنجاح، فكان حصاد جهودها في مرحلة التأهيل استلامها حقيبة (كاميرا، ولاب توب، و”ستاند”)، وتعلمت أساسيات التصوير الفوتوغرافي بدورة تدريبية قصيرة استفادت منها، بل تحصلت على المركز الأول، وعملت مصوّرة في الأعراس النسوية في عدن، كما شاركت في تصوير بعض التغطيات الإعلامية الإنسانية”.

في حضرموت هناك نساء يعملن في استخراج الملح، ويتوارثن المهنة، لكن مع سنوات الحرب صارت تستقطب هذه المهنة نساء من خارج شريحتها.

تقول إحدى المنقِّبات عن الملح إنّها ورثت أرضاً تقع في نهاية مدينة الحامي التابعة لمديرية الشحر في ساحل حضرموت، تعود لأجدادها، الذين كانوا يعملون ويمتهنون مهنة استخراج الملح من أماكن يُطلق عليها “العيقة”، وهي أماكن تتواجد فيها المياه المالحة، ومن ثَمّ تتحول إلى كميات كبيرة من الملح الطبيعي.

تصف إحداهن عملية الاستخراج بالقول: “يتم حفر الأحواض، التي يستغرق عملها فترة طويلة، بدايةً بالحفر، ومن ثَمّ التصفية”، مشيرة إلى أن ذلك يتم على امتداد الأراضي الموروثة، بعد عملية الحفر للأحواض.

تضيف: “يتم ترك الحفر لتنبع فيها المياه البحرية المالحة، ومن ثم يُترك لفترة حتى يتغير لون الماء على عدة ألوان، من اللون الأزرق إلى اللون الأحمر، ومن ثَمّ إلى اللون الأبيض، بعدها يتم تركه لأيام؛ حتى يجف من الماء تماماً، ويعرض على أشعة الشمس حتى يصير ملحاً، وهو ما يسمى بعملية الترسيب، قبل أن ينقل بطرق شتَّى لبيعه في الأسواق القريبة”.

هذه بعض نماذج لكفاح اليمنيات في زمن الحرب، التي تشير بوضوح إلى أن وعياً جديداً بدأ بالتشكُّل خارج منظومة السياقات الاجتماعية التقليدية، التي تحرِّم وتجرِّم عمل المرأة، وتعطِّل قدراتها، او تُستخدم كمكمِّل ديكوري في نشاطات البعض في سياقات الترويج الدعائي.

تقول الدكتورة ذكرى النزيلي: “الموضوع لا يحتاج استعراضات بلاغية وخطابية، كلما سنحت الفرصة أمام الكاميرا، ولقاءات الشركاء الدوليين، ولا يحتاج تذكير المحيط بدور المرأة في الحياة، بل يحتاج خطوات عملية لتعزيز هذا الجانب على أرض الواقع، يبدأ من داخل الأسرة ذاتها”.

وتضيف: “إذا كنّا لا نشعر بها ككائن موازٍ له حضوره ووزنه وثقله، فلا داعي لاستحضارها شكلاً ديكورياً لتلميع حضورنا به. باختصار؛ لا نحتاج -نحن النساء- إلى ممارسات وثقافات كهذه، وتأطيرات مكمِّلة لدور الرجل الاستعراضي”.

بقلم : محمد عبد الوهاب الشيباني

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى