نحن نعيش في عالم يعجّ بالصوت والحركة والضغوط، لكن الزحام الحقيقي ليس في الطرقات، ولا في أرتال الانتظار، الزحام الحقيقي يحدث داخلنا، في عقولنا وأفكارنا ومشاعرنا.
الزحام النفسي هو عندما تتراكم الأمور الصغيرة من دون أن نلاحظ، كرسالة لم نردّ عليها، أو مهمة تأخرت، أو وعد لم نوفِ به، أو حوار عالق في الذاكرة، أو حلم لم نقترب منه، أو إحساس بالتقصير، أو قد يكون خوفاً من المستقبل، أو تأنيباً مستمراً على الماضي.
كل هذه الأشياء تزدحم في دواخلنا، من دون أن تصدر صوتاً مسموعاً، لكنها ترهقنا، وتشوّشنا، وتجعلنا نجاهد لنفهم ما نشعر به، أو لماذا نحن متعبون طوال الوقت، حتى عندما لا نفعل شيئاً متعباً.
في الزحام النفسي، لا نستطيع أن نفكر بوضوح، ونشعر أن كل شيء مهم ومستعجل، وكل قرار صعب، ونصبح أكثر توتراً، وأقل تركيزاً، وأقل صبراً مع من نحب، ومع أنفسنا.
أحياناً نحن لا نحتاج إلى حلول سريعة، بل إلى إبطاء الإيقاع، أن نقول لأنفسنا «توقّفي، التقطي أنفاسك»، أن نعيد الاتصال بذواتنا قبل أن نفكر في إرضاء العالم، فالراحة ليست رفاهية، بل ضرورة، والتصالح مع النفس أول طريق للتصالح مع الآخرين.
الأصعب أن هذا الزحام لا يملك إشارات مرور، ولا رجل شرطة ينظمه، إنه يحدث بصمت، ويكبر كلما تجاهلناه، ولأننا لا نعطي مشاعرنا أولوية، نعدّ التعب النفسي شيئاً عادياً، أو جزءاً من الحياة، نقنع أنفسنا بأن علينا التحمّل فقط، لكن الحقيقة أن التحمّل المستمر من دون تفريغ يحوّلنا إلى نسخ مرهقة، تبتسم على السطح وتغرق من الداخل.
الزحام النفسي يحتاج إلى وقفة، لحظة صادقة مع الذات، لا تتطلب سفراً أو عطلة طويلة، أحياناً كل ما تحتاج إليه هو كأس قهوة في هدوء، أو دفتر صغير تكتب فيه ما يؤلمك، أو جلسة مع صديق يسمعك من دون أن يقاطعك، أو حتى بضع دقائق من الصمت تنظر فيها إلى السماء وتتنفّس بعمق.
من المهم أن نتعلم ترتيب مشاعرنا، كما نرتب مكاتبنا وهواتفنا، وأن نفرغ ما لا يفيد، ونصغي لما يزعجنا، بدل أن نخبّئه في زوايا القلب.
التنظيم لا يخصّ الوقت فقط، بل يشمل الداخل، والهدوء لا يعني غياب الأحداث، بل ترتيب الأولويات، والراحة النفسية لا تأتي من قلة المهام، بل من طريقة تعاملنا معها.
ليس من الخطأ أن تشعر بالتعب، بل الخطأ أن تنكر شعورك، وتستمر وكأنك بخير، بينما الزحام في داخلك يكاد تخنقك.
ابدأ اليوم.. نظف زحام نفسك، اكتب وتحدث وخذ وقتك. لا تجامل على حساب سلامك.
فأنت تستحق أن تكون مرتاحاً من الداخل، لأن الزحام النفسي لا يرى بالعين لكنه ينهك الروح.
متابعات