بعد نحو ثلاثة عقود على الانضمام لاتفاقية الحبوب التابعة للأمم المتحدة، تنسحب مصر بنهاية يونيو المقبل رسميا منها، فيما أكدت القاهرة أنه لا قيمة مضافة على العضوية، بينما أعرب مسؤول أممي عن “الدهشة والحزن” من القرار.
وتعتبر هذه الاتفاقية، الوحيدة التي تغطي تجارة الحبوب، وكانت قد انطلقت في عام 1995، بينما قدمت القاهرة إشعارا بطلب الانسحاب في فبراير الماضي، وفق تقرير لوكالة رويترز.
وقالت وزارة الخارجية المصرية لرويترز في بيان إن القرار اتخذ بعد تقييم قامت به وزارتا التموين والتجارة وخلص إلى أن عضوية مصر في المجلس لا تنطوي على قيمة مضافة.
وقال المدير التنفيذي للمجلس الدولي للحبوب الذي يشرف على الاتفاقية، أرنو بيتي، للوكالة: “لقد حدث هذا دون سابق إشارة. عدة وفود من الدول الأعضاء بالمجلس تشعر بالاندهاش والحزن إزاء القرار”.
وأشار إلى أن “بعض الأعضاء سيطالبون مصر بإعادة النظر في قرارها”.
“الحرب في أوكرانيا”
أعضاء في اتفاقية الحبوب الأممية سيطالبون مصر في إعادة النظر بقراراها . أرشيفية – تعبيرية
ويأتي انسحاب مصر من الاتفاقية، التي تعنى بتعزيز شفافية السوق لزيادة التعاون التجاري في سوق الحبوب، في أعقاب فترة من الاضطرابات على خلفية الحرب في أوكرانيا والمخاوف المرتبطة بالأمن الغذائي العالمي.
ويقول الخبير الاقتصادي المصري، وائل نحاس، إنه لا يمكن النظر للقرار المصري بمعزل عما يجري في الدول الهامة التي تصدر الحبوب، مثل أوكرانيا وروسيا.
وأضاف في حديث لموقع “الحرة” أن “قرار القاهرة بالانسحاب من الاتفاقية قد يكون له ارتباط برغبة في التعامل بشكل مباشر مع روسيا لتأمين الحبوب، وحتى التخلي عن الدفع بالدولار، والدفع لموسكو بالروبل”.
وأشار نحاس إلى أن “الاتفاق الأممي الآخر المتعلق بالسماح بتصدير الحبوب من أوكرانيا، ينتهي العمل به في 17 مارس، فيما يتوقع أن روسيا لن تجدد العمل به والسماح باستمرار خروج الصادرات من الموانئ الأوكرانية”.
ولم يخف الخبير نحاس من أن انسحاب القاهرة من اتفاق الحبوب بحد ذاته قد لا يكون لا تبعات مباشرة، ولكن “التعامل المباشر مع روسيا قد يكون له تبعات أو قد يمثل مجازفة للقاهرة، خاصة وأن صفقات شراء الحبوب الأخيرة كانت أغلبها بتمويل من البنك الدولي”.
وأثرت الحرب في أوكرانيا على مشتريات مصر من القمح العام الماضي وأجرت الحكومة محادثات مع دول من بينها الهند في مسعى لإيجاد مناشئ أخرى بخلاف إمداداتها من البحر الأسود.
ورغم تلك الجهود، اعتمدت مصر على الواردات الروسية التنافسية لتعزيز احتياطياتها من خلال مناقصات تقليدية بعضها ممول من البنك الدولي، فضلا عن العروض المباشرة غير التقليدية.
وقالت الهيئة العامة للسلع التموينية في مصر، بتاريخ 22 فبراير، إنها اشترت 240 ألف طن من القمح الروسي في مناقصة دولية للشحن، في الفترة من 1 إلى 15 أبريل، بتمويل من البنك الدولي.
وأضافت الهيئة أن عملية الشراء تمت بسعر 317 دولارا للطن شاملا التكلفة والشحن من غرين فلاور.
وقال مصدران مطلعان، طلبا عدم الكشف عن هويتيهما، لرويترز إن مصر مدينة للمجلس برسوم عضوية.
لكن نحاس قلل من أهمية هذا الأمر، وقال: “الأمر ببساطة يشبه رسوم العضوية في هذا الاتفاق، ولو لم تسدد القاهرة الرسوم المطلوبة، يمكن للهيئة القائمة على متابعة الاتفاق إسقاط عضوية مصر”.
وأشار إلى أن هناك معلومات غير مؤكدة يتم تداولها ترتبط بأن “مصر تسعى أن تكون بوابة للحبوب للقارة الأفريقية”، ولهذا تسعى إلى تعزيز مركزها في سوق الحبوب.
وقالت الهيئة العامة للسلع التموينية في تصريحات أخرى، في فبراير، إنها اشترت 50 ألف طن من الأرز الأبيض، والتي من الممكن أنها تخطط لبيعها عبر بورصة السلع حديثة الإنشاء، حسبما قال مسؤول بوزارة التموين.
ولم تقدم الهيئة العامة للسلع التموينية سببا للممارسة، لكن إبراهيم عشماوي، مساعد أول وزير التموين، قال لقناة إخبارية محلية في فبراير الماضي إنه من الممكن بيع الأرز لشركات خاصة عبر بورصة السلع المصرية.
“تبعات لاحقة” و”هواجس سياسية”
القاهرة تقول إن عضوية مصر لا تنطوي على قيمة في اتفاقية الحبوب الأممية. أرشيفية – تعبيرية
الباحث في الشؤون الإقليمية في مركز الأهرام للدراسات، سامح راشد، يرى أنه “لا مبرر اقتصادي أو تفسير مباشر يتعلق بانسحاب مصر من الاتفاقية”، مشيرا إلى أن الاتفاقية نفسها منذ التوقيع عليها “لم تحدث فارقا يذكر ولم يكن لها أي أثر على التداعيات الخطيرة للحرب الروسية على أوكرانيا”.
ورجح في رد على استفسارات موقع “الحرة” أن “الاتفاقية الدولية لا تتضمن أي آليات لضمان الاستقرار في الإمدادات أو لضبط الأسعار أو لإدارة التجارة الدولية، من هنا يمكن تفسير القرار بأن القاهرة ربما رأت فيها أنها بلا جدوى أو دور حقيقي”، ناهيك عن أن “الدول مطالبة بدفع رسوم سنوية للعضوية، فربما يكون لهذا الاعتبار المالي دور في الخطوة المصرية ولو بشكل جزئي”.
وزاد راشد أن “التبعات المباشرة والعاجلة على مصر تبدو ضئيلة للغاية على المدى القريب، ولكن على المديين المتوسط والبعيد، ربما تظهر تبعات سلبية بأن خروجها من الاتفاقية قد يقيد حركتها مستقبلا في استيراد القمح بصفقات مع واشنطن بصفة خاصة”.
وذكر تجار لرويترز أنهم لا يتوقعون تأثيرا على سوق الحبوب، لكن مصدرا دبلوماسيا قال إنه يمكن من الناحية المعنوية اعتبار خروج مصر من منظمة متعددة الجنسيات أمرا مثيرا للقلق.
وباستحضار البعد السياسي، يؤكد الباحث راشد أن “قرار القاهرة يبدو مرتبطا بزيادة الاعتماد على الواردات الغذائية من روسيا ودول أخرى بعيدة عن المعسكر الغربي، ما يعني مزيدا من الابتعاد عن واشنطن، وهو ما يضيف إلى سلسلة التحديات والهواجس التي باتت تخيم بازدياد على العلاقات المصرية- الأميركية”.
وفي أواخر فبراير الماضي، قال وزير التموين المصري، علي المصيلحي، إن احتياطي البلاد من القمح يكفي لمدة 4.6 شهر.
ويستعد مشترو القمح عالميا لصدمة في الأسعار مع تقليص المشتريات الآجلة، إذ يجري المشترون في البلدان المستوردة الرئيسية في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا ما تسمى عمليات شراء آجلة للإمدادات لتغطية الاحتياجات لشهرين إلى ثلاثة أشهر فقط مقابل عمليات الشراء المعتادة لتغطية فترة تصل إلى ستة أشهر، وفقا لمطاحن ومحللين وتجار تحدثوا لرويترز.
وقفزت العقود الآجلة للقمح في بورصة شيكاغو إلى مستوى قياسي، في مارس من عام 2022، بعد أن غزت روسيا أوكرانيا، وهي دولة رئيسية في تصدير الحبوب. وأدى سوء الأحوال الجوية في مناطق منتجة أخرى إلى انخفاض الإمدادات. وانخفضت العقود الآجلة 48 بالمئة منذ ذروتها العام الماضي، لكن أسعار الحبوب لا تزال مرتفعة وسط حالة الضبابية بشأن الإمدادات في منطقة البحر الأسود والمخاوف بشأن المحصول في الولايات المتحدة.
وتتواصل شحنات الحبوب من البحر الأسود بموجب اتفاق تدعمه الأمم المتحدة، لكن هذا الاتفاق قيد إعادة التفاوض في محادثات تبدأ هذا الأسبوع وسط خطر تصاعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وتظهر بيانات وزارة الزراعة الأميركية أن المخزونات في مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، من المتوقع أن تنخفض إلى 3.4 مليون طن بنهاية يونيو، وهو أدنى مستوى في 18 عاما.
ويقدر أن تصل المخزونات في الهند، ثاني أكبر مستهلك للقمح في العالم، إلى نحو 12.6 مليون طن في يونيو، أي أقل من نصف المخزونات قبل عامين.