حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التعبئة العسكرية الجزئية، بعد سبعة أشهر من بدء حربه ضد أوكرانيا، شعر الشاب سيرغي، بالخوف، وأن بقاءه في روسيا بمثابة خطر محدق به، فهرب إلى فنلندا.
ورغم انتشار شائعات بقرب تعبئة ثانية، عاد سيرغي إلى بلاده مرة أخرى، بعد نحو أربعة أشهر، لكنه يشعر الآن بأنه مستعد لمواجهة مثل هذا القرار بشكل أفضل.
“حماية مزدوجة”
وقال وهو يخفض صوته بينما كان يتحدث من مقهى في وسط موسكو لصحيفة “بوليتكو”: “أحمل أوراقي معي في جميع الأوقات، بطاقتي العسكرية التي تفيد بأنني أعاني من حالة صحية، وبطاقتي الوظيفية أيضا”، مشيرا إلى أن رئيسه في العمل وعده بأنه سيتم إعفاءه من الخدمة العسكرية، على أساس أنهم يحتاجونه في وظيفته الحكومية.
وعندما أعلن عن حالة التعبئة الجزئية في سبتمبر الماضي، صدرت ردود أفعال فورية رافضة للقرار، حيث خرجت احتجاجات وتم الاعتداء على بعض المباني العسكرية، في حين هرب عشرات الآلاف من الشباب إلى الخارج واكتظت المطارات، مما أدى إلى هروب الكثير عبر نقاط التفتيش الحدودية للخروج من البلاد، ووصفت تلك المشاهد بأنها أكبر عملية نزوح جماعي منذ الثورة البلشفية.
وفي الوقت نفسه، كشف أولئك الذين خضعوا للتعبئة، في منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تم تداولها على نطاق واسع، عن مشكلات بينها الافتقار إلى التدريب ونقص المعدات وأزمة في البنية التحتية.
ومع تداول هذه المنشورات، تنتشر حاليا شائعات عن موجة حشد ثانية تلوح في الأفق.
وبعد أن شملت التعبئة الأولى 300 ألف شاب من مناطق حدودية وفقيرة هامشية في روسيا، مما أدى إلى ظهور انتقادات لمعايير التجنيد الغامضة، فإن الحديث عن أن الجولة الثانية قد تشمل أي رجل روسي من أي مكان، “مما يعني أنه لم يعد خيارا لأي شخص أن يتفادى ما يحدث، بحسب دينيس فولكوف، مدير مركز ليفادا للاستطلاعات المستقلة ومقرها موسكو.
وفي أواخر أكتوبر الماضي، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، عن انتهاء حملة التعبئة، وأكد في تصريحات متلفزة أنه “لا توجد إجراءات أخرى مخططة”.
ووثق مركز ليفادا، أكبر انخفاض في مؤشر الرفاهية الاجتماعية في تاريخ المؤشر الذي يزيد عن 30 عاما.
ومع التصريحات التي بدت مطمئنة وزير الدفاع، بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها لدرجة أن بعض الروس الذين فروا في البداية إلى الخارج عادوا إلى البلاد، بسبب الالتزامات العائلية والمالية.
وعلى سبيل المثال، فر كونستانتين (38 عاما)، وهو مدرس يبلغ من العمر 38 عاما، إلى أوزبكستان ثم إسبانيا، بعد أن وفدت عناصر من الجيش، إلى مكان عمل صديقه المهندس (بغرض تجنيده).
سافر الاثنان معا، وبعد شهرين، عادا إلى موسكو، إذ لم يتمكن صديقه من العثور على وظيفة مناسبة بسبب حاجز اللغة.
وأشار آخرون ممن تحدثوا إلى “بوليتيكو” عن ديونهم، ومنازلهم التي تركوها بسبب فرارهم السريع من البلاد، أو مطالب أصحاب العمل، باعتبارها أسباب للعودة إلى روسيا.
لكن الكثيرين قالوا أيضا إنهم ربما بالغوا في تصوراتهم وخشيتهم من أن يشملهم قرار التعبئة.
ومع ذلك، يشير الخبراء القانونيون إلى أن مرسوم التعبئة الأول الذي أصدره بوتين لا يزال ساري المفعول.
“مليون جندي إضافي”
ومع تصاعد إيقاع الحرب في أنحاء مختلفة في أوكرانيا حاليا، يتوقع خبراء عسكريون أن تضطر موسكو إلى تعبئة ثانية في ضوء الخسائر التي تكبدتها في المعارك الدامية بمناطق القتال الساخنة مثل باخموت في شرق أوكرانيا.
وقال المحلل العسكري روسلان ليفييف، أحد أعضاء فريق “كونفليكت إنتيلجانس” الاستقصائي، إن العام الجديد جلب معه تحولا في الاستراتيجية العسكرية لروسيا، من التركيز بشكل أساسي على المدفعية بهدف الحفاظ على خط المواجهة، إلى محاولة الدفع للأمام بهجوم بري، مما يعني أن هناك احتياجا أكبر حاليا لزيادة القوات.
ويدلل ليفييف على كلامه بأنه “بداية من شهر يناير الماضي، نرى أن جزءا من أولئك الذين تم تعبئتهم، ولكنهم ما زالوا في معسكرات التدريب ولم يشاركوا بعد في القتال، بات يتم توجيههم تدريجيا إلى الخطوط الأمامية”.
وقدر أنه، اعتمادا على حجم طموح بوتين، ستحتاج القوات المسلحة الروسية إلى عدة مئات الآلاف من الجنود، وقد يصل الرقم إلى مليون رجل إضافي.
ويشير إلى أنه لتجنب الضغط وتحقيق أقصى قدر من التأثير، ستحتاج روسيا إلى تجنيد وتدريب تلك القوات الإضافية قبل أبريل المقبل، وربما قبل بدء تسليم الدبابات الغربية وأنظمة صواريخ متطورة إلى كييف، الذي قد يتم في وقت مبكر من مارس.
“تعبئة شبه سرية”
وعلى أمل تحقيق مكاسب مفاجئة على جبهة القتال، يرى خبراء أن بوتين يماطل في اتخاذ قرار تعبئة ثان نظرا لقلقه من المخاطر السياسية، وقد يختار بدلا من ذلك إجراء “تعبئة شبه سرية” أقل إثارة للجدل.
يشير الخبراء إلى أن بوتين قد يلجأ للتعبئة الفورية لمجندي الربيع الماضي عند انتهاء سنة خدمتهم، أو المجندين الجدد لهذا العام، باسم المجهود الحربي، أو الخيارين معا.
لكن ليفييف يقول إن “مثل هذه الإجراءات ستوفر حوالي 150 ألف فرد إضافي فقط، وهو ما لن يكفي لسحق القوات الأوكرانية”.
من ضمن من عادوا إلى روسيا بعد هروبهم إلى الخارج، فيودور (32 عاما)، الذي أراد أن يجهز منزله ويصلح بعض الأشياء فيه من أجل تأجيره ليساعده في دخله عند السفر مرة أخرى، كما أنه يحصل على دورات تدريبية حاليا ليصبح مبرمجا، مما قد يحسن فرص عمله خارج روسيا.
ويقول: “إذا طرق عناصر من الجيش الباب من أجل تجنيدي، ببساطة لن أفتح الباب”.
وعاد كونستانتين، وصديقه إلى روسيا بعد أن قاما باتصالات مع معارف لهم في الجيش والأمن لتفادي تجنيدهم في التعبئة الأولى، لكنهم لا يزالون يخططون للانتقال إلى الخارج مرة أخرى، مشيرا إلى أنهما يطوران مهاراتهما ولغتهما بينما ينتظران الحصول على الوثائق اللازمة للسفر.
ويقول كونستانتين: “على الرغم من الطبيعة الشمولية لهذا النظام، إلا أنه لا يعمل بشكل جيد، ويفتقر إلى الموارد لإجبار الجميع على أن يصبحوا عبيدا”، معتبرا أن ذلك منحه راحة البال التي يحتاجها، في الوقت الراهن.