هل سبق أن لاحظت أن أغنية لم تعجبك في البداية أصبحت مألوفة ومحببة بعد أن سمعتها مرات عدة، أو أنك بدأت تقتنع برأي معين فقط لأنه تكرر أمامك كثيراً، سواء في الحديث أو على وسائل التواصل الاجتماعي؟
هذا التأثير يُعرف في علم النفس باسم «تأثير التعرض المتكرر»، وهو إحدى أكثر الظواهر النفسية تأثيراً في تشكيل آرائنا ومشاعرنا، دون أن ندرك ذلك أحياناً.
وفقاً لدراسة نُشرت عام 1968 في مجلة «علم النفس الاجتماعي والشخصية»، وهي من أشهر المصادر العلمية في مجال علم النفس، تصدر عن الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA): https://psycnet.apa.org/doiLanding؟doi=10.1037%2Fh0025848، أجرى الباحث روبرت زاجونك سلسلة من التجارب التي عرض فيها صوراً عشوائية من وجوه غير مألوفة إلى كلمات من لغات لا يفهمها المشاركون وطلب منهم تقييم مدى تقبلهم لها. والمثير في الأمر أن المشاركين مالوا إلى تفضيل الصور أو الكلمات التي تكررت أمامهم أكثر، حتى إن لم تكن مفهومة أو مألوفة في البداية.
هذه الظاهرة لا تؤثر فقط في تفضيلاتنا البسيطة، بل تمتد إلى مواقفنا من الأشخاص، الأفكار، وحتى القضايا العامة.
الإعلام، مثلاً، يستخدم هذا التأثير بشكل مستمر، حيث يكرر عبارات ورسائل معينة حتى تصبح مقبولة أو مألوفة لدى الجمهور، دون أن يتم تقديم حجج منطقية قوية. وفي عالم التسويق، تعتمد الكثير من الحملات على عرض الشعار أو الرسالة بشكل متكرر حتى تترسخ في الذاكرة وتُبنى معها علاقة نفسية إيجابية.
لكن التكرار لا يعمل فقط على ترسيخ القبول، بل قد يُستخدم أحياناً أداةً لتشويه المفاهيم. عندما تتكرر معلومات غير دقيقة أو مغلوطة، حتى من مصادر مختلفة، فإن العقل يبدأ تدريجياً بتقبلها وكأنها حقائق، خاصة عندما لا يكون لدينا الوقت أو الرغبة في التحقق منها. وهذا يجعلنا فريسة سهلة للمبالغات الإعلامية أو المعلومات المنتشرة عبر وسائل التواصل.
معرفة هذه الظاهرة تجعلنا أكثر وعياً بما نستهلكه يومياً، فالأفكار التي نتعرض لها باستمرار، حتى لو بدت بسيطة أو غير مؤثرة، قد تشكل مواقفنا بمرور الوقت. وهذا يسلّط الضوء على أهمية أن نختار بعناية ما نسمعه ونشاهده ونقرأه، لأن التكرار ليس بريئاً دائماً، بل يمكن أن يكون له تأثير عميق في تشكيل هويتنا ومواقفنا دون أن نلحظ ذلك.
في النهاية، نحن لا نملك السيطرة على كل ما يُعرض علينا، لكن يمكننا على الأقل أن نكون أكثر وعياً بأثر التكرار في حياتنا. التكرار قد يكون أداة للتعلم وتعزيز الإيجابيات، أو قد يتحول إلى وسيلة لتكرار ما لا نريده، إذا لم ننتبه له. لذا، من المهم أن نسأل أنفسنا باستمرار: هل أحب هذا حقاً، أم فقط اعتدت عليه؟