حين نستمع إلى قصة، أو معلومة للمرة الأولى، نكّون عنها انطباعاً سريعاً، ونادراً ما نعود لإعادة تقييمه، حتى وإن ظهرت لاحقاً معلومات تنفيها أو تضعفها. يحدث هذا في المواقف اليومية، في النقاشات، في الأخبار، وحتى في أحكامنا على الأشخاص. وغالباً ما نُفاجأ بأن «النسخة الأولى من الحقيقة» تبقى هي الأقوى في أذهاننا، رغم كل ما يليها من تصحيحات، فما السبب في ذلك؟ ولماذا يُصبح من الصعب علينا تعديل قناعاتنا حتى عندما تتوفر أدلة جديدة؟ هذه الظاهرة يُطلق عليها في علم النفس اسم «تأثير الاستهلال» أو Anchoring Effect، وهي ميل الإنسان إلى الاعتماد المفرط على أول معلومة يتلقاها كنقطة مرجعية، تُؤثر في جميع الأحكام التي يُصدرها لاحقاً، حتى لو كانت تلك المعلومة جزئية أو غير دقيقة. والظاهرة تُعد من أكثر التحيزات المعرفية شيوعاً وتأثيراً في طريقة تفكيرنا.
في تجربة شهيرة أُجريت في جامعة هارفارد، طُلب من المشاركين تدوين آخر رقمين من رقم الضمان الاجتماعي الخاص بهم، ثم سئلوا: ما هو الحد الأقصى الذي ستكون مستعداً لدفعه مقابل مجموعة من السلع العشوائية؟ النتيجة كانت أن الأشخاص الذين كانت أرقامهم أعلى قدّموا عروضاً أعلى لشراء نفس المنتجات، مقارنة بأولئك الذين كانت أرقامهم أقل. فقط لأن الرقم الأول الذي رأوه (رقم الضمان) ثبت في أذهانهم وأثّر في قراراتهم، رغم أنه لا علاقة له بالمنتج المعروض.
هذا التأثير لا يتوقف عند الأمور المادية أو الاقتصادية، بل يمتد ليشمل أحكامنا الأخلاقية، وتصوراتنا الاجتماعية، وحتى قراراتنا اليومية. عندما نسمع شيئاً سلبياً عن شخص ما، غالباً ما يظل هذا الانطباع مؤثراً في نظرتنا إليه، حتى لو أثبت الواقع عكس ذلك. وعندما نقرأ خبراً معيناً في عنوان صادم، قد لا تُفلح التفاصيل الدقيقة التي تليه في تغيير شعورنا الأولي.
من المهم أن ندرك أن عقولنا تعمل بهذه الطريقة بشكل تلقائي، لا بدافع سوء النية، بل لأنها تبحث عن التبسيط والاختزال وسط كمّ هائل من المعلومات. لكن الوعي بهذه الآلية يمنحنا فرصة للتراجع خطوة إلى الوراء، وإعادة التفكير في «ما نعتقد أننا نعرفه»، خاصة عندما ندرك أن معلوماتنا الأولى قد تكون سطحية أو منحازة.
أن نتعلم كيف نراجع انطباعاتنا الأولى، ونعيد ضبط «نقطة البداية» التي نبني عليها أحكامنا، هو جزء من الوعي الذاتي والنضج العقلي، فليس المهم أن تكون أول من كوّن رأياً، بل أن تكون أول من تجرأ على مراجعته إذا استدعى الأمر.
متابعات