في كل صباح، ومع أول إشعار يصلنا على الهاتف، يبدأ سباق جديد مع الزمن؛ نردّ بسرعة، نقرّر بسرعة، ونصدر الأحكام بسرعة، وكأننا نعيش في سباق لا خط نهاية له، لا وقت فيه للوقوف، ولا مجال فيه للتمهل.
لقد تحولت السرعة إلى نمط حياة، بل إلى ثقافة عامة، تتغلغل في تفاصيل يومنا من دون أن نشعر، حتى أصبحت معياراً للنجاح، وسرعة الإنجاز أحياناً أكثر أهمية من دقته أو إنسانيته.
في زحام هذه السرعة، كم مرة توقفنا لنسأل أنفسنا: هل فقدنا نعمة التمهّل؟
التمهّل الذي كان سمة الحكماء، ومصدر الاتزان، ومفتاح التروّي قبل اتخاذ القرار، أصبح في نظر بعض الناس، تراجعاً أو بطئاً غير مبرر، نركض خلف الأخبار العاجلة، ونتابع الحياة لحظة بلحظة، من دون أن نمنح أنفسنا فرصة التذوق، أو حتى الاستيعاب.
لقد أثرت هذه الثقافة فينا على أكثر من مستوى، من علاقاتنا الشخصية إلى قراراتنا المصيرية، وباتت ردود الفعل لحظية، ملأى بالأحكام السريعة، نعلق على الآخرين من خلف الشاشات خلال ثوان، وننسى أن خلف كل قصة إنساناً ووجعاً وحياة: وقد نحذف أشخاصاً من دوائرنا الاجتماعية لمجرد اختلاف عاديّ، من دون أن نمنح أنفسنا أو غيرنا وقتاً للفهم أو التفاهم.
ولعل الأخطر، أننا نسرع حتى في تربية الأبناء، نريد منهم أن يتعلموا كل شيء بسرعة، أن ينضجوا بسرعة، أن ينجحوا بسرعة؛ فقد نضغط على أعمارهم البريئة بمتطلبات تفوق قدراتهم، متناسين أن الطفولة ليست مرحلة للإنجاز، بل للبناء الهادئ والصبور.
نحن بحاجة لإعادة الحسبان للتمهّل، ليس لأنه مضاد للسرعة، بل لأنه مكمل لها، فالتمهل لا يعني التقاعس، بل يعني أن نمنح الفعل قيمته، ونعطي القرار حجمه، ونبقي على مساحة من التأمل في زوايا حياتنا المزدحمة.
فلنبطئ قليلاً، ونجرب مثلاً أن نقرأ كتاباً، من دون استعجال إنهائه.. أن نمشي في الحديقة من دون هدف، أن نحادث أحداً من دون النظر المتكرر إلى الساعة. لنجرب أن نستمع بدلاً من أن نجيب، أن نتروّى بدلاً من أن نحكم، أن ننتظر بدلاً من أن نندفع.
في النهاية، ليست الحياة سباقاً للفوز، بل رحلة للعيش، والذين يتمهلون هم من يتمكنون من تذوق التفاصيل، وملاحظة الجمال، وفهم العمق في عالم تغريه السرعة وتخطفه التفاصيل العاجلة.
أحياناًَ، كل ما نحتاج إليه أن نأخذ نفساً عميقاً، ونسمح لأنفسنا بأن نكون، لا أن نركض؛ ففي زمن السرعة، قد يكون التمهّل أعظم أشكال الحكمة.