مصر / موجة فتاوى غريبة تجرف الخطاب الديني وصل إلى القول إن الإنترنت و”فيسبوك” مذكوران في القرآن ومواطنون يرون الظاهرة وسيلة إلهاء

ضرورة ترشيد تدخل رجال الدين في كل كبيرة وصغيرة

بينما تدك روسيا مدن أوكرانيا، وأميركا تهدد بتدخل عسكري إذا حاولت الصين غزو تايوان، واليونان تعلن منع دخول المهاجرين براً وبحراً، وكوريا الشمالية تطلق ثلاثة صواريخ باليستية، ومؤشرات بأن العالم مقبل على أزمة غذاء، وجد المصريون أنفسهم في مواجهة جدلية صاخبة وأزمة نقاشية صارخة قائمة حول طهارة الخنزير كحيوان وحرمانيته كطعام. وما أن بدأ الخنزير يتوارى قليلاً، حتى انجر الملايين لمسألة ورود ذكر “فيسبوك” و”تويتر” في القرآن.

وكما حدث مع الخنزير، لم يتسع الوقت لالتقاط الأنفاس من مفاجأة “فيسبوك” والقرآن، حتى نزلت مناشدات موجهة لـ”المرأة الصالحة” بتشجيع زوجها على الزواج بأخرى تقرباً لله، لا سيما أن “الحليلة” أفضل عند الله من “الخليلة”.
خلل الحليلة والخليلة
الخلل الواضح في الخطاب الديني السائد ليس وليد اليوم أو الأمس، لكن استمراره وربما انتعاشه يدهش البعض ويغضب البعض الآخر، وإن غرقت فيه الغالبية. فالعالم تتجاذبه بوادر حرب عالمية ثالثة وشبح وباء جديد يطرق الأبواب، وأزمة غذاء قد تكون أقرب للجميع مما يتصورون، إضافة إلى قوائم المعضلات والمشكلات المزمنة من مناخ وتلوث وفقر وأمراض وغيرها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن حديث القاصي والداني، و”ترند” “تويتر” وشد وجذب “فيسبوك” وموضوع المناقشات الاجتماعية والمهاترات العنكبوتية هو زواج الزوج على زوجته، وورود ذكر “تويتر” و”فيسبوك” في القرآن.
على شاشات تلفزيون الدولة، باغت الضيف شبه الدائم في القنوات الفضائية أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر أحمد كريمة الجميع بقوله، إن على الزوجة الصالحة أن تضع الشريعة الإسلامية صوب عينيها في كل مواقف حياتها، وبناء على ذلك، فعليها أن تُعين زوجها المغترب على الزواج من أخرى، وذلك بدلاً من أن يضطر لارتكاب الفاحشة. وأكد أن مساعدة الزوجة زوجها في غربته على الزواج بأخرى “قرب من الله”.
وأضاف كريمة، الذي يعتبره الملايين نموذجاً لرجل الدين الذي يقدم لهم صحيح الدين في كبسولة، إن مسألة “استئذان” الزوج من زوجته الأولى قبل أن يتزوج الثانية لم ترد في الشريعة الإسلامية، بل ربما فيه (عدم إخبارها) مصلحة للأسرة. وأبدى كريمة “تفهماً” لما قد تشعر به الزوجة لدى زواج زوجها بأخرى، بل إنه اعترف أنها (المرأة) “بشر”، وقد تشعر بالضيق أو الغيرة، لكن واجب عليها أن تقدر ظروف الزوج المغترب الذي يبتغي العفة، ولا يريد أن يرتكب الفاحشة وتساعده على ذلك.
وأطلق كريمة على سعة صدر الزوجة ورفض الزوج الفاحشة “تضحيات” خاضها هو بنفسه في تجربة السفر، وإقامته في الخارج ضمن بعثات للأزهر خارج مصر، وهو ما اعتبره “جهاداً في سبيل الله”.
جهاد الزوجة
جهاد الزوجة في سبيل الله عبر تشجيع زوجها على الزواج من أخرى، بسبب سفره، وجهاد الزوج الذي يتزوج بأخرى في غربته بدلاً من ارتكاب الفاحشة حيث “الحليلة” (الزوجة) أفضل من الخليلة أدى إلى تدافع ذكريات الأمس القريب المحمل بفتاوى جنسية بعضها عجيب والبعض الآخر غريب وجميعها مريب.
السنوات القليلة الماضية شهدت دفقاً في عالم الفتاوى المثيرة، لا سيما تلك ذات الطابع الجنسي من إرضاع الكبير إلى نكاح البهائم والزوجة الميتة وغيرها. ومن أنواع النكاح إلى النجاسة، وهي قضية أخرى تظهر بين الوقت والآخر في توقيتات غريبة تثير التساؤلات، فقد خرج كريمة قبل حديث جهاد زواج الزوج من زوجة أخرى بأيام بتأكيد عبر برنامج تلفزيوني أيضاً أن الخنزير والكلب ليسا نجسين. الخنزير والكلب خضعا لعقود طويلة من الازدراء بسبب آراء وفتاوى دينية صنفتهما “نجسين”، وهو ما أدى إلى تنامي مشاعر كراهية شديدة من قبل الملايين تجاه هذين الكائنين، لكن هذه الأيام، وبحسب فتاوى حديثة، اتضح أنهما “كائنات خلقها الله تعالى، والله لا يخلق شيئاً نجساً”.
فتاوى غريبة
الفتاوى الغريبة والأحاديث الدينية التي تتطرق إلى موضوعات عجيبة تتواتر هذه الآونة. التواتر هذه المرة لم يقف عند حدود فتاوى الجنس والنكاح وتعدد الزوجات، بل وصل إلى القول إن شبكة الإنترنت و”فيسبوك” مذكوران في القرآن الكريم. شيخ آخر وجدل آخر وقدر هائل من القيل والقال والسجال والجدال تفجرت في كل مكان.
أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر، مبروك عطية، قال: “أقسم بالله الإنترنت والفيس مذكوران في القرآن. وقال إن ذكرهما ورد في الآية 83 من سورة النساء، (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً)”. وأضاف: “(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) نت ده ولا مش نت يا عشاق الإذاعة والنشر؟!”.
نشر ما قاله عطية لم يقتصر على البث عبر قناته على “يوتيوب”، بل انتقل عبر عشاق الإذاعة والنشر إلى منصات الإعلام الجديد والتقليدي بما في ذلك وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وهو دفع بعض الخبثاء إلى معاودة التلويح بنظرية الإلهاء، التي ظلت إشاعة على مدار عقود، حيث تحليلات شعبية قائمة على مبدأ “انظر إلى العصفورة”.
العصفورة أعياها التحليق

العصفورة التي أعياها التحليق تعود بعد سنوات من الغياب لتفرض نفسها مجدداً في ظل موجة الغلاء الشديد، وتضاؤل الجنيه أمام الدولار، وانكماش في القطاع الخاص غير النفطي، بسبب تداعيات الحرب الأوكرانية، ووصول معدل التضخم في أبريل (نيسان) الماضي 14.9 في المئة مقارنة مع 4.4 في المئة من الشهر نفسه العام الماضي. مواطنون عاديون يلوحون أن إثارة “ترند المشايخ” ربما هدفه جذب انتباه الناس بعيداً من غياهب الاقتصاد وكواليسه الملتوية
التواء الفتاوى والآراء الدينية وجنوح كثير منها صوب المسائل الجنسية وقضايا النكاح وتعدد الزوجات وكيفية إشباع شهوات الرجال وغيرها يفسره البعض بأنه في صميم الدين، وأنه لا حرج في تناول هذه القضايا المهمة. ويراه آخرون باعتباره شططاً وجنوحاً من بعض رجال الدين
يشار إلى أن عدداً من أطباء الأمراض النفسية والعصبية أشاروا في عام 2017 حين اجتاحت فتاوى إرضاع الكبير ونكاح الزوجة الميتة والبهيمة أرجاء البلاد إلى أن مثل هذا الطرح ربما يعكس خللاً عقلياً لدى أصحاب هذه الآراء. وقتها رجح أستاذ الطب النفسي عادل مدني أن يكون المشايخ الذين يصرون على إطلاق هذه الفتاوى “مرضى نفسيين”، لكنه رأى كذلك أن انتشار الاهتمام والحديث عن الأمور الجنسية في المجتمع وفي البرامج والأفلام ربما “يدفع بعض المختلين للخوض في الدين بفتاوى وهمية بحجة الإجابة عن تساؤلات الناس”.

الجنس والنكاح

تساؤلات الناس واهتماماتهم التي يدور كثير منها حول الجنس والزواج وتعدد الزوجات وشهوات الرجال باعتبارها أمراً خارجاً عن السيطرة ربما يدفع المشايخ للإغراق في هذه القضايا، وربما العكس.
المتخصصة في قضايا المرأة التنموية، دعاء حسين، قالت لـ “اندبندنت عربية”، إن غالبية المصريين واقعون تحت سيطرة موروثات بالغة التطرف والتشدد تلونت بألوان التفسيرات الدينية المتشددة والمنغلقة في السبعينيات، فتحولت إلى تراث ديني مقدس لا مجال لمناقشته أو الجدال فيه، وباتت الغالبية تعيش في كنف تراث غارق في التشدد تعتقد الغالبية أنه صحيح الدين.

صحيح الدين أو خطأه أو بين بينين المنتشر طرحه هذه الآونة على منصات التواصل الاجتماعي لا يحير فقط قطاعاً من المصريين باتوا قادرين على رؤية الفرق الشاسع بين اهتمام العالم بما يجري في الكوكب من إجراءات متسارعة لرسم خريطة سياسية وعسكرية واقتصادية وصحية جديدة من جهة، وإغراق البعض من المشايخ والبعض من المصريين في أحاديث الجنس والنكاح وتعدد الزوجات من جهة أخرى.
تقول حسين، “الغالبية حالياً أصبحت لديها إمكانية وأدوات طرح الأسئلة وتداول الإجابات عبر منصات التواصل الاجتماعي، ما يعني أن كل من هو متصل بالإنترنت قادر على طرح أسئلة والعثور على إجابات، وأحياناً تقديم إجابات دون شرط المعرفة”.

معرفة أسباب ما يدعو الغالبية بين الحين والآخر للانخراط في أحاديث وفتاوى وأسئلة وصراعات فكرية حول الجنس والنكاح والزواج حتى لو كانت بقية العالم قاب قوسين أو أدنى من الاشتعال أمر مهم.

أستاذ علم الاجتماع السياسي، سعيد صادق، يقول لـ”اندبندنت عربية”، إن هناك تفسيرين رئيسين. الأول هو رؤية تقليدية من قبل القائمين على الأمر ترى في أن الدين والمرأة والجنس “هي أكثر مواد الإلهاء للرأي العام وإثارة الجدل واستنفاد الطاقات وإهدار الوقت”
ويرى سعيد أن لكل قناة تلفزيونية حالياً “مفتياً ومشايخ يتنافسون على جذب المشاهدين بـ(فتاوى صفراء) يسمح لها بالتناول والتداول طالما نأت بنفسها عن الاقتصاد والحريات”.

هوس المجتمع
أما التفسير الثاني، فيرى سعيد أنه “هوس المجتمع بالدين والفتاوى” في كل كبيرة وصغيرة وصغيرة جداً في المجتمع. ويضيف، “هوس المجتمع بما يبدو أنه دين جعل كثيرين من المشايخ يركز على الحديث عن المرأة والطلاق والزواج وأصول النكاح، لأنها تعطيهم شهرة وآمنة لهم، إذ لا تعرضهم للمساءلة”.
تقول دعاء حسين، إن كريمة بالغ التشدد في تفسيراته، وعلى الرغم من ذلك “له قاعدة جماهيرية كبيرة ومخلصة ومدافعة عنه، ومعتبرة إياه مدافعاً عن الدين في وجه أعدائه، وهو ما يفسر أسباب انجراف كل من المجتمع وخلفه المشايخ أو المشايخ وخلفهم المجتمع بين وقت وآخر وراء فتاوى وآراء دينية أقل ما يمكن أن توصف به هو التطرف الشديد مع الضحالة العميقة”.
لكاتبة الصحافية سحر الجعارة تتساءل في مقال عنوانه “كريمة يعيد ملك اليمين” إن كان قدرنا (المصريين) أن نغرق بين وقت وآخر في جدل يلهينا عن الممارسة المدنية لحياة مستقرة ينظمها الدستور والقانون ولا يتدخل فيها كهنة الدين؟”، وهو سؤال مطروح بقوة في المجتمع المصري على مدار العقد الماضي، لكن الإجابة يتجاذبها طرفان: طرف يؤكد مدنية الدولة وضرورة ترشيد تدخل رجال الدين في كل كبيرة وصغيرة من فوائد بنكية وعلاقات زوجية وقواعد طبية وهندسية وتقنية، لدرجة أن العالم مشتعل في حروب دامية وأزمة غذاء متوقعة وأوبئة متعاقبة، لكن المصريين غارقون في فتاوى النكاح وذكر “فيسبوك” في القرآن، وآخر يرى في دعوات ترشيد ضلوع رجال الدين في تفاصيل الحياة حرباً على الدين ومحاولات لطمس الهوية وتشتيت الاهتمام بعيداً من قواعد الدين والنكاح في القلب منها بأمور هامشية مثل حرب عالمية ثالثة ووباء جديد يطل برأسه وأزمة غذاء تلوح في الأفق.
خير السؤال ما قل ودل وأوجز دون أن يدري ملخصاً المعضلة الحالية. سأل أحدهم شيخاً جليلاً على صفحته على “فيسبوك”: “هل يجوز إقصاء رجال الدين بعيداً من شؤون الحياة والاكتفاء بالقوانين؟” فرد الشيخ: بالطبع لا يجوز.
اندبندنت عربيه

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى