لم تعد السعودية ترغب في إنهاء الانقلاب الحوثي وإعادة السلطة الشرعية إلى العاصمة صنعاء كما أعلنت في بداية عملية “عاصفة الحزم”، ولكنها تعمل على العكس من ذلك، أي أنها تحرص على بقاء الحوثيين طرفا فاعلا في اليمن، بدليل تحركاتها ومفاوضاتها السرية والعلنية مع الحوثيين وتصريحات مسؤوليها المؤكدة على سعي المملكة لتحقيق السلام في اليمن والحل السياسي للأزمة، وأما ما تحقق عمليا حتى الآن فهو أن السعودية قضت على السلطة الشرعية وأحلت مكانها سلطة كانتونات ضعيفة ومتنافرة، وتركت جماعة الحوثيين تبسط سلطتها في العاصمة صنعاء وغيرها من المحافظات التي تحت سيطرتها.
موقف السعودية من جماعة الحوثيين لا يختلف عن موقفها من إيران، فإذا كانت لا ترغب في القضاء على جماعة الحوثيين في اليمن، فإنها أيضا لا ترغب في سقوط النظام الإيراني، على العكس مما تردد من التهديد الصريح لولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة، محمد بن سلمان، في عام 2017، بمواجهة إيران من خلال نقل الحرب إلى طهران، عندما قال: “لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل نعمل على أن تكون المعركة لديهم في إيران”.
لكن ما الذي حدث حتى تغير السعودية موقفها من جماعة الحوثيين وإيران؟ بخصوص إيران، ذكرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، في تحليل نشرته على موقعها على الإنترنت، في يناير الماضي، أن تصريحات القادة السعوديين، لا سيما ما أورده محمد بن سلمان، قد تكون مجرد إشارات لفظية فقط. ووفق المجلة، فهناك كثير من الأدلة على أن القيادة السعودية الحالية لا ترغب في إسقاط النظام الإيراني، وتريد بدلا من ذلك إضعاف إيران بما يكفي لانتزاع تنازلات جيوسياسية رئيسية، وقد يشمل ذلك تنازلات إيرانية بشأن برنامجها النووي، وعدم تدخلها في الشؤون العربية، ووقف الدعم لحلفائها الإقليميين مثل حركة حماس وحزب الله اللبناني و جماعة الحوثيين.
وترى مجلة فورين بوليسي أن هناك سببين رئيسيين يجعلان إسقاط النظام الإيراني لا يصب في مصلحة السعودية، السبب الأول يتعلق بالهوية السعودية، فالقوة السعودية موجودة فقط بسبب وجود إيراني آخر، حيث تقدم السعودية نفسها على أنها رمز للقيادة السنية. والسبب الثاني، وفق المجلة الأمريكية، خوف السعودية من “تأثير الدومينو” كنتيجة محتملة لإسقاط النظام الإيراني، وتداعيات ذلك على الرياض ومنطقة الخليج، والخوف من عودة شبح الربيع العربي في حال أن الاحتجاجات في إيران حينها نجحت في إسقاط نظام الولي الفقيه. هذا فيما يتعلق بموقف السعودية من إيران، فماذا بشأن موقفها من جماعة الحوثيين في اليمن؟
– استجداء السلام من الحوثيين
في الوقت الذي لا يستطيع فيه كبار المسؤولين في الحكومة اليمنية الشرعية اللقاء بالسفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر، عند الضرورة، بالرغم من أن الجميع يقيمون في العاصمة السعودية الرياض، وتبدو لقاءات السفير بهم محدودة، لكن ذلك السفير وغيره من المسؤولين السعوديين يتجشمون عناء السفر إلى مسقط وبغداد وصنعاء منذ مدة طويلة للقاء بقادة جماعة الحوثيين والتفاوض معهم لتحقيق السلام بين الطرفين، أي بين السعودية والحوثيين، وربما أن هناك ملفات مطروحة على طاولة المفاوضات بين الطرفين لا يفصحان عنها خشية ما ستثيره من ردود أفعال شعبية قد تخلط كل الأوراق وتربك ما يحاك ضد اليمن من مؤامرات.
وعلى العكس من التكهنات التي كانت تثار سابقا بأن هناك خلافات بين العائلة الحاكمة في السعودية بشأن الحرب في اليمن، بين طرف ينادي بحسم المعركة ضد الحوثيين وطرف يرفض ذلك لأسباب شتى، تؤكد التصريحات التي يدلي بها مسؤولون سعوديون من حين لآخر بشأن مساعي بلادهم لتحقيق السلام في اليمن بأن هناك إجماعا في أوساط قيادة المملكة على ضرورة الحل السياسي في اليمن بدلا من الحسم العسكري، وهو الحل الذي يراد منه تثبيت سيطرة جماعة الحوثيين في المحافظات والمدن التي تسيطر عليها، مما يمكنها من البقاء طرفا فاعلا في اليمن.
– السعودية وعقدة ثورة 26 سبتمبر
وبين رغبة السعودية في بقاء مليشيا الحوثيين طرفا فاعلا في اليمن وعزم الشعب اليمني على استعادة الجمهورية وروح ثورة 26 سبتمبر 1962 والقضاء على جماعة الحوثيين، فإن صراع الإرادات بين الشعب اليمني والسعودية قادم لا محالة، وليس مستبعدا أن السعودية قد تشن غارات جوية على الجيش في حال حانت لحظة استعادة الجمهورية والقضاء على الانقلاب الحوثي الإمامي، ثم ستزعم أن ذلك حصل بالخطأ، كما فعلت من قبل بمشاركة الإمارات عندما شنت غارات على مواقع للجيش لتمنع تقدمه نحو العاصمة صنعاء بعد أن كان قد وصل إلى مشارف العاصمة (منطقة نهم التابعة لمحافظة صنعاء)، أو لتمنع تقدم الجيش الوطني في بعض الجبهات.
كما يصل الأمر أحيانا إلى قتل أبرز قادة الجيش الوطني في حال اجتمعوا لمناقشة سير المعارك وتطوير الجيش الرسمي، كما حصل من غارات عنيفة شنها التحالف السعودي الإماراتي على معسكر العبر في حضرموت، في 7 يوليو 2015، واستهدفت اجتماعا لبعض كبار ضباط الجيش الوطني الذين اجتمعوا لمناقشة تشكيل جيش وطني قوي والقضاء على الانقلاب الحوثي، ونجم عن غارات التحالف قتل عدد منهم، ولا يوجد ما يبرر تلك الغارات بأنها خاطئة، لبُعد محافظة حضرموت عن مسرح العمليات العسكرية ضد الحوثيين.
كما أنه بحرص السعودية على بقاء جماعة الحوثيين طرفا فاعلا في اليمن، ستشهد البلاد مزيدا من التعقيدات سياسيا وعسكريا، ذلك أن السعودية تريد بقاء الحوثيين طرفا فاعلا في البلاد لكنها لن تسمح لهم بالسيطرة على اليمن كاملا والانفراد بحكمه، وبنفس الوقت فهي تصر على مساندتها للسلطة الشرعية ضد الانقلاب الحوثي لكنها بنفس الوقت أضعفت تلك السلطة لتظل في حاجة لحماية المملكة من هجمات الحوثيين. وفي حين يؤكد مسؤولون سعوديون دائما أن بلادهم تعمل على تحقيق السلام في اليمن، لكنها في نفس الوقت تعمل على إطالة أمد الحرب، وأما السلام الذي تدعو إليه فهو ذلك السلام الذي سيضمن بقاء مليشيا الحوثيين طرفا فاعلا في البلاد أو دولة داخل الدولة.
وتعيد ذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 إلى الأذهان الموقف العدائي للسعودية من تلك الثورة التي أربكت المملكة ودفعتها إلى إمداد نظام الحكم الإمامي الكهنوتي بكل أنواع الدعم والتدخل العسكري إلى جانبه، وأيضا حشد دول أخرى لمساندة الإماميين. وبما أن السعودية عجزت عن إعادة الحكم الإمامي إلى صنعاء بالرغم من انسحاب الجيش المصري المساند للثورة إثر نكبة 1967، فإن انقلاب جماعة الحوثيين على السلطة الشرعية كانت ستراه السعودية انتصارا لها بأثر رجعي لولا الروابط العميقة بين جماعة الحوثيين وإيران.
بيد أن المصالحة بين السعودية وإيران والمفاوضات المستمرة بين السعودية والحوثيين ستعيد ترتيب المشهد ليتناسب وفقا لمزاج السعودية وسياستها في اليمن، لا سيما أن نموذج بعض شيعة العراق -الذين يحاولون تحسين العلاقة مع السعودية والتخفيف من التبعية لإيران- يعطي السعودية مؤشرات إيجابية بإمكانية تكرار نموذج شيعة العراق العرب في أوساط جماعة الحوثيين، أي تحسين علاقتها مع السعودية والتخفيف من التبعية لإيران، حيث ترى السعودية أن حكاما شيعة في العراق واليمن يدمرون بلدانهم بالفساد والفقر والجوع والحروب والانقسامات أفضل من حاكم سني قوي، مثل صدام حسين، ترى السعودية أنه يشكل خطرا عليها.
– لماذا تحرص السعودية على بقاء الحوثيين؟
هناك أسباب كثيرة تجعل السعودية تفضل بقاء الحوثيين طرفا فاعلا في اليمن وعدم القضاء عليهم، فيما يلي أهمها:
• ترى السعودية أن بقاء الحوثيين سيوفر لها مبررات البقاء عسكريا في اليمن والسيطرة على بعض أراضيه حتى تحين الظروف المناسبة لتحقيق أطماعها المتمثلة في اقتطاع أراض يمنية جديدة وضمها إلى أراضيها، بعد ترويض المواطنين في الأراضي المستهدفة والتخلص من الأصوات الكبيرة المعارضة.
• الخشية من أن القضاء على الحوثيين وتعافي اليمن واتجاهه نحو الاستقرار والازدهار يتسبب في خروج اليمن من الوصاية السعودية والاستقلال بقراره الوطني، ولذا فبقاء الحوثيين كعامل عدم استقرار وتهديد دائم سيجعل السعودية تواصل تدخلها في اليمن وفرض وصايتها عليه.
• الخشية من أن القضاء على جماعة الحوثيين سيدفع بقية المليشيات في المنطقة إلى شن هجمات انتقامية على المنشآت النفطية السعودية وغيرها من المنشآت والمدن الحيوية.
• الخشية من تطور اليمن وازدهاره باعتبار أن بقاء جماعة الحوثيين يمثل عامل عدم استقرار وتنمية وتدمير قدرات المواطنين اليمنيين.
• استمرار بقاء الحوثيين فاعلين في المشهد اليمني يعني تلبية لرغبة السعودية في إفراغ الجمهورية والحزبية والديمقراطية من مضمونها وتحويلها من وسائل تنافس سياسي شريف إلى أدوات صراع عسكري دموي عنيف.
• أن بقاء الحوثيين كطرف سلالي عنصري عنجهي سيظل يمثل محفزا لمشروع الانفصال، بسبب كراهية الجنوبيين وجميع المكونات اليمنية للحوثيين، ومن دون الحوثيين فإن غالبية أبناء جنوب اليمن يفضلون الوحدة ويرفضون الانفصال تحت حكم المجلس الانتقالي الذي يرونه نسخة من الحوثيين، أي سلطة جباية ونهب وعنصرية وعدم تقديم أي خدمات عامة للمواطنين.
وأخيرا، لعل أقل ما تريده السعودية من حرصها على بقاء جماعة الحوثيين طرفا فاعلا في اليمن ولكن غير مسيطر على البلاد بأكملها، أن ذلك سيجعل من اليمن ورقة ضغط بيد السعودية وساحة للمناورة لإدارة خلافاتها مع إيران، لأنها، أي السعودية، غير قادرة على التفاوض مع إيران في حال حُسِمت المعركة في اليمن ضد الحوثيين، كون حلفاء إيران في بقية دول المنطقة أقوى من الحلفاء المفترضين للسعودية، أي أن إيران لديها أوراق ضغط قوية بينما السعودية مجردة من أوراق الضغط.