عن فلسفة الفرح…لدى اليمنيين

بقلم : محمد المياحي

بكل حياتهم المرتبكة ومقلقاتهم الكبيرة، تلك الهموم التي تصل إلى تهديد أسس الحياة لدى اليمنيين؛ إلا أن أحدا لا يستطيع نكران ما يتمتعون به من صفات ملحوظة فيما يخص قدراتهم على الفرح، نزوعهم الأصيل نحو السعادة، وهو أمر لا يمكن إعادته حصرا إلى قسوة حياتهم، بقدر ما هو طبع متأصل فيهم يتوجب تعزيزه ليغدو سمة عامة لهذا الشعب.

حيث ما تزاول عواطف اليمنيين في أغلبها تتمتع بطبيعة خام. أبسط أشياء الحياة تحوز انفعالات قوية منهم. حفلة متواضعة، قليل من المال، ما يكفي لتدبير أمورهم الأساسية، اهتمام بسيط، تعامل بتقدير، فوزهم بجائزة زهيدة. هذه القدرة العالية على التجاوب مع وقائع الحياة هي صفة مركزية لدى اليمنيين ومكسب نفسي وروحي كبير.

لم يختبر اليمنيون وقائع حياة واسعة، وبهجة مستديمة، أعني على مستوى حياتهم الخاصة، بمعنى أنهم لم يستهلكوا مباهج الحياة الغزيرة ولا استهلكتهم.. احتفظوا بغرائزهم المندفعة. مبدئيا هذه الطباع جديرة بالإعجاب، وحتى لو كان حضورها القوي نتاج عيشهم المحاط بالكدح، تظل عواطفهم المتحفزة ملمحا أصيلا في شخصية اليمني وعنصرا مهما لتحصيل السعادة؛ بمفهومها الملموس، وحتى بمفهومها الفلسفي.

السعادة مفهوم غامض، ليس هناك صيغة جامعة لهذه الفكرة، غير أنها بدهيا، تعود إلى عاملين: سعادة خارجية نابعة من تفاعلات الحياة العامة، وسعادة ذات مصدر داخلي تتعلق بوعينا بالحياة وطريقتنا في التفاعل مع ما يحدث لنا. انطلاقا من هذا، يبدو أن اليمني يملك خصوبة وجدانية عالية وميولا قوية للابتهاج بالحياة، مقابل شح في عوامل السعادة الخارجية.

في كتاب “انتصار السعادة” لبرتراند راسل، يسرد الفيلسوف الشهير عناصر مركزية للسعادة مقابل عناصر مسببة للتعاسة. من ضمنها يذكر عنصر القدرة على التلذد: التلذد بمعناه النفسي والروحي والذهني، أي ذلك الشغف تجاه كل شيء، مؤكدا أن أي إنسان أو شعب يتمتع بقدرة واسعة على الاهتمام بأكبر قدر ممكن من الأشياء فهو بذلك يوسع من قدراته على السعادة، ويكون حصاده عاليا من مباهج الحياة.

تبدو لي هذه الصفة حاضرة بقوة لدى النفسية اليمنية، إن ما كان يبهجه وهو طفل ما يزال قادرا على شد انتباهه، وقد بلغ عمرا متقدما في الحياة، وتلك ليست نقيصة كما قد ينظر لها بعض المثاليين، حين يسخرون من عاطفية اليمنيين؛ هؤلاء الساخرون، الذين يرون الاحتفاء بأشياء بسيطة أمرا يناقض الوعي الكبير.
وليس يدري المرء من الذي حدد للبشر ما يجب أن يمنحهم سعادة مما ليس كذلك.

بالمجمل فهذا النوع من الأذهان ذوي التركيب المليء بالحواجر، هذا الفهم الذي يحجّر على الناس مصادر سعادتهم، هم من المتسببين بالتعاسة، ويتوجب مقاومتهم.

بالمقابل، فالقدرة على التعاطي باهتمام مع كل وقائع الحياة صفة صحية. هناك فكرة لدى نيتشة، أراها دستورا للحياة وتوصيفا للأذهان الرفيعة، الحائزة لسعادة أكبر، يقول: “بقدر ما يرتفع مستوى الثقافة لدى الإنسان يصبح كل شيء مهماً في نظره، فيغدو قادراً على العثور بسرعة على الجانب المفيد للأشياء، والتقاط العنصر الذي يمكنه من أن يسد ثغرة أو أن يدعم فكرة ما. هكذا يختفي الضجر شيئاً فشيئاً، وكذلك يتقلص التهيج المفرط للأحاسيس، ويغدو بالنهاية متنقلاً بين الناس تنقُّل باحث في العلوم الطبيعية بين النباتات، ولا ينظر  حتى إلى نفسه إلا كظاهرة لا تثير فيه سوى غريزته المعرفية، وحين تغدو الحياة كوسيلة للمعرفة؛ بهذا المبدأ في القلب نستطيع لا فقط أن نحيا بشجاعة، بل كذلك أن نحيا بمرح ونضحك بمرح، حيث كل شيء مبهج بما في ذلك صعوبات حياتك”.

لو بنينا على الطبع، الذي تحويه مجمل الفكرة -مع تجاوز إشارتها التفصيلية للمعرفة- يمكن توصيف شغف اليمني بكل شيء، أنه يقترب من طباع الفلاسفة، أولئك الذين أدركوا جوهر الحياة وصاروا يتمتعون بقابلية عالية ودائمة للابتهاج بكل ما يصادفونه، وبأبسط الأشياء.

الخلاصة:

لديّ قناعة أن السعادة هي أمر ممكن ومتوفر لأي انسان. كل الناس بمقدورهم أن يكونوا سعداء دون حاجة لأي شيء. فقط لو أعادوا ضبط تصوراتهم عن الحياة، ذلك أن أغلب مشاكلهم نابعة من عشوائية ذهنية، وحالة من الارتباك الداخلي، أكثر منها تعاسة نابعة من وقائع خارجية. هناك جزء كبير من تعاسة البشر غير مبررة، أتحدث عن التعاسة النابعة من ذات الإنسان، تلك التي يمكنه السيطرة عليها لمجرد تغيّر فكرة في ذهنه، والتمرين الوجداني على طرق بسيطة للتعاطي مع الحياة.

لا يمكن أن تكون كل هذه التعاسة، التي يشكو منها عالم البشر اليوم؛ طبيعية. العكس هو الصحيح. ذلك أنني أؤمن أن الإنسان يولد ولديه نزوع مركزي دائم نحو السعادة، ما يعني أن كل المشاعر المناقضة لهذه الحالة هي توترات عابرة، أو يُفترض أن تكون كذلك. لكن لماذا هو الإنسان تعيس في معظم أوقاته. أعني إنسان العالم بشكل عام.. أظن أن هناك خطأ ما حدث وانحراف مهول عن الحياة المفترضة. خطأ ذهني تسبب بانتشار كل هذه التوترات تجاه الحياة. خلل في تصوراتنا عن الحياة، وكيف يجب أن تكون. أي أننا نحن مصدر تعاستنا، ولو انضبط الوجود واقعيا بأرفع صيغة ممكنة تحبونها، لما زالت تعاستكم أيها البشر.

ما الحل..؟ عليكم أن تعيدو ضبط تصوراتكم عن الحياة، تحرير قدراتكم الوجدانية وجعلها فعالة عند أدنى منبهات الحياة، رفع منسوب انتباهها، كي تغدو قادرة على التفاعل مع العالم في أي ظرف هي فيه. ليس أمرا عاطفيا القول إن على العالم الذي يملك حياة مرتبة بمستوى فائق، حيث لا شيء يهدد حياته، عليهم أن يستفيدوا درسا عمليا من اليمني المحاط بهموم الدنيا، ومع ذلك تجده يقضي أيام العيد، مناسباته الاجتماعية، وما يزال قادرا على الفرح. الفرح بشيء ما بسيط، أو حتى باللاشيء على طريقة نيتشة.

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اخترنا لك
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى