تتوالى التسريبات الإعلامية بشأن مقترحات سعودية للتسوية السياسية للأزمة اليمنية بعد مضي أكثر من ثماني سنوات من الحرب، وهي تسريبات مقصودة ويُراد منها جس نبض الجماهير وردود الأفعال عليها، يأتي ذلك بعد مدة قصيرة من اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران برعاية صينية، ويعد الملف اليمني الاختبار الأول لنجاح تلك المصالحة، وربما أن تصورات الحل السياسي في اليمن ورعايته تحظى هذه المرة بدعم دولي واسع عبر قنوات خلفية، والأمر يتعلق بترتيبات لمصالح قوى كبرى أكثر من كونه صحوة إقليمية أو دولية للحل السياسي في اليمن.
لا شك أن نجاح أي خطوة لإنهاء الحرب في اليمن وتوافق جميع الأطراف على التسوية السياسية للصراع يمثل تطورا كبيرا بعد أن تعقد مسار الحرب والجمود العسكري الذي لم يفضِ إلى نتائج ملموسة، لكن أن تكون السعودية هي من تضع مقترحات التسوية السياسية ورعايتها أو الإشراف على تنفيذها، فإن ذلك لا يبعث على الاطمئنان، بل فهو يثير القلق أكثر مما يكون مبعثا على التفاؤل، لاسيما أن لليمنيين تجارب سيئة مع الوساطات والمبادرات السعودية لإنهاء بعض أزمات البلاد، والتي تتبعها عادة أعمال عنف عاجلا أو آجلا، كما أن جميع الوساطات السعودية لتسوية بعض النزاعات في الإقليم لم تنجح في إنهاء الصراعات وإنما كانت مجرد ألغام مغطاة بمسكنات آنية.
– محفزات التسوية السياسية وعوائقها
تبدو جهود التسوية السياسية التي تقودها السعودية حاليا حاجة ماسة للمملكة أكثر من كونها مطلبا يمنيا، ليس لأن اليمنيين لا رغبة لهم بالسلام وإنهاء الحرب، بل فهذا مطلب جميع اليمنيين، ولكن لأن تلك التسوية تبعث على القلق والارتياب، لاسيما أن الأوضاع في اليمن لم تنضج بعد لتنفيذ تسوية سياسية ناجحة ومستدامة، بسبب تعقيدات الواقع الميداني وتجذر الأزمات وتمددها والعداوات الصلبة بين بعض الأطراف والتمترس وراء حواجز طائفية ومناطقية مغذية للصراع، ومع ذلك فهناك العديد من المحفزات والدوافع التي قد تجعل مختلف أطراف الصراع المحلية والأجنبية لديها نوع من الاستعداد للحل السياسي في البلاد ولو كان مؤقتا، والأمر ليس صادرا عن قناعة بنجاح تسوية مستدامة، ولكن يبدو وكأنه محاولة للقفز على الواقع ومغامرة ليست مضمونة النتائج وتجريب شيء أفضل من لا شيء.
ولعل أهم دافع مشترك بين مختلف الأطراف للحل السياسي هو أن خسائر كل طرف ماديا وبشريا وصلت إلى مستوى مؤلم ولم يعد مستعدا لتحمل المزيد من الخسائر، وكذلك فإن بقاء الوضع كما هو عليه له أيضا كلفته المادية والبشرية وأعباؤه الأمنية والخوف من تأثر واقع البلاد بتفاعلات الصراعات الإقليمية والدولية وانعكاساتها على الوضع في اليمن الذي سيكون قابلا للاشتعال في أي لحظة، كما أن كل طرف لم يعد لديه الاستعداد الكافي لخوض معركة واسعة وتقديم تضحيات كبيرة، لأنه إذا كسب المعركة ستكون عوائدها أقل من خسائرها، وإذا تعرض لهزيمة فإنها ستكون له بمنزلة انتحار سياسي وعسكري.
لكن لماذا قد تقبل مختلف الأطراف اليمنية بالتسوية السياسية التي ستصممها السعودية وفقا لمصالحها ورغباتها ومؤامراتها التاريخية على اليمن حتى وإن كان ظاهرها عكس ذلك؟ الإجابة الصريحة توجد في النقاشات السرية التي تجريها السعودية مع مختلف الأطراف، فهي ستطمئن كل طرف على حدة أو بمعزل عن الأطراف الأخرى، وستسبغ على الجميع الوعود والضمانات والرشى المالية الباهظة، لأن الطبخة التي تعد لها المملكة ستكون هذه المرة نوعية، وقد تفخخ البلاد بصراعات ستلتهم عدة أجيال قادمة في حال كُتب لها النجاح.
وبما أن السعودية هي الفاعل الأكبر في الأزمة اليمنية، فإنه بإمكانها خلق محفزات لقيادات مختلف الأطراف للاستجابة لمقترحاتها للحل السياسي، إذ ستضرب على الوتر الحساس لكل طرف: ستقدم مزيدا من التنازلات والامتيازات لمليشيا الحوثيين التي لم تكن تحلم بها ولن تحققها بواسطة الحرب، وستقنع المجلس الانتقالي بأن انخراطه في التسوية السياسية سيكون محطة عبور لتحقيق الانفصال بالوسائل السياسية بدلا من تحقيقه بالعمل العسكري ومتاعبه وصعوباته وكلفته الكبيرة، وأما بقية مكونات مجلس القيادة الرئاسي فهي غير قادرة على الاعتراض على الإملاءات السعودية، وبعض القيادات مستعدة لتقديم التنازلات ولو اقتضى الأمر تنازلها عن مناصبها ومغادرة المشهد السياسي ومغادرة البلاد تماما مقابل طيب الإقامة في أراضي المملكة.
كما أن الوضع في البلاد بصيغته الراهنة يبدو محفزا لجميع الأطراف للقبول بتسوية سياسية. فمثلا، مليشيا الحوثيين ليس بإمكانها تحقيق مكاسب ميدانية إضافية أو الانتصار في معارك واسعة وحاسمة، ولو كان بقدرتها ذلك لفعلت، بل فإذا كانت قادرة على التهام جميع الأراضي اليمنية فلن تتردد عن ذلك يوما واحدا، وستتعامل مع أي تسوية سياسية للصراع باعتبارها تكتيكا آنيا، وليس قبولا بتسوية مستدامة، فهي قد تكون الأقوى من حيث الأسلحة وعدد المقاتلين، لكن ينقصها العقيدة العسكرية والخبرات القتالية بسبب الحشد الإجباري المستعجل والفوضوي للمقاتلين الذين جاءت بهم من هوامش المجتمع ومن الفئات الفقيرة والضعيفة، والتسوية السياسية ستمنحها مكاسب كبيرة، وسرعان ما ستلتف عليها، مثلما نقضت جميع الاتفاقيات والعهود السابقة التي كانت طرفا فيها.
وكذلك الأمر بالنسبة لمليشيا المجلس الانتقالي، فإذا كان بقدرتها السيطرة العسكرية على جميع المحافظات الجنوبية والشرقية وإعلان الانفصال فلن تتأخر عن ذلك لحظة واحدة، وكل المكاسب الميدانية التي حققتها كانت بفضل الدعم العسكري الجوي للتحالف السعودي الإماراتي، وهي تدرك تماما أنه لا يمكنها البقاء والهيمنة دون استمرار الغطاء الجوي للتحالف، ومصيرها مرتبط ببقاء تدخل التحالف في اليمن، وبالتالي فهي ترى أن تحقيق الانفصال عبر العمل السياسي والوساطات والرعاية الأجنبية أيسر من العمل العسكري، والبداية من تسوية سياسية تتضمن إطارا لحل القضية الجنوبية يبدأ بالفيدرالية أو الكونفدرالية وانتهاء بالاستفتاء الشعبي بشأن الانفصال بإشراف خارجي وتزوير نتائجه لمصلحة خيار الانفصال.
وأما ما بقي من هياكل للسلطة الشرعية فهي تشعر بالضعف الذي أُرغمت عليه، وترى الجيش الوطني متناثر ميدانيا في ما يشبه الجزر وتواجهه مليشيا الحوثيين من الأمام ومليشيا الإمارات والسعودية من الخلف والغارات المؤلمة للتحالف من الجو بمبرر أنها غارات خاطئة، كما أنها، أي السلطة الشرعية، تعرضت للتفتيت والإضعاف من التحالف السعودي الإماراتي طوال السنوات الماضية، ومع أنه بإمكانها فعل أشياء كثيرة والاستناد إلى قاعدة شعبية واسعة لترجيح كفتها في العمل العسكري أو توظيف الثقل الشعبي للتأثير على مفاوضات الحل السياسي، لكن ما بقي فيها من قيادات فهي تفتقر للشجاعة والإقدام والخيال السياسي، وتفتقر للمشروع الوطني الكبير، وليس بإمكانها مخالفة الإملاءات السعودية، وترى أن ما تقترحه السعودية هو عين الصواب، وتكمن فيه مصلحة اليمن واليمنيين.
وهكذا قد تتخلق من هذا الواقع المُر بعض المحفزات لمختلف أطراف الصراع للانخراط في تسوية سياسية ترعاها السعودية رغم أنها تعد طرفا رئيسيا وفاعلا في الصراع، لكن في المقابل ثمة الكثير من العقبات والعوائق التي ستحول دون نجاح التسوية السياسية التي تسعى لها السعودية، فهي قد تنجح جزئيا في خفض التصعيد أو خفض العمليات العسكرية وحسم ملف الأسرى وبعض الأمور الثانوية، لكن أن تنجح في تحقيق تسوية سياسية شاملة ومستدامة فهناك الكثير من العوائق التي تحول دون ذلك.
ومن أبرز العوائق التي تحول دون نجاح المساعي السعودية لتحقيق تسوية سياسية في اليمن، أن مختلف أطراف الصراع تنقصها الثقة فيما بينها، فهناك عدوات متجذرة، وهناك تقاسم للجغرافيا وسيطرة لكل طرف على الأرض بعد تقطيع أوصال البلاد، ولكل طرف مشروع خاص من الصعب دمجه مع مشاريع الأطراف الأخرى بسبب التناقض الكبير بينها، وفي مقدمة تلك التناقضات البون الشاسع بين النظام الجمهوري الديمقراطي الذي هو مطلب الغالبية العظمى من الشعب اليمني، وبين مشروع الحكم السلالي الطائفي العنصري لمليشيا الحوثيين ويحظى بتأييد السلالة الهاشمية فقط وهي أقلية صغيرة في المجتمع اليمني، وكذلك فالوحدة الوطنية تحظى بتأييد الغالبية العظمى من الشعب اليمني، بينما الانفصال يحظى بتأييد أقلية عنصرية مناطقيا وتسعى للهيمنة على جنوب البلاد الذي تتعدد فيه المكونات السياسية والاجتماعية الرافضة للمجلس الانتقالي وتكوينه العنصري البدائي الضيق.
ولذا فالتسوية السياسية بين مليشيات وكانتونات لا تنتمي للنظام السياسي اليمني ولا تعترف به، ومتنافرة اجتماعيا وجغرافيا وتكوينيا وتتلقى الدعم من أطراف خارجية مصالحها متعارضة، تعد تلك التسوية قفزا على الحقائق التاريخية والاجتماعية والجغرافية الراسخة، وتعد أيضا بمنزلة تغييب شامل للدولة وكيانها القانوني، ومحاولة لفرض واقع جديد يُهمّش فيه المجتمع اليمني بفئاته ومكوناته وقواه السياسية والاجتماعية الراسخة والحية، ومنح الأقليات -التي تحولت إلى مليشيات وآلات لإنتاج الموت والدمار- الشرعية المزيفة لاستعباد الشعب واستمرار الصراعات فيما بينها، والحيلولة دون عودة الدولة إلى وضعها الطبيعي، وهذا سيدفع مختلف مكونات الشعب إلى ترتيب صفوفها، والخروج من مربع الترقب والانتظار إلى ميدان النضال الوطني ووضع حد للعبث الأجنبي في البلاد.
– هل اكتملت إعادة هندسة المشهد اليمني؟
الجانب الغامض في التسريبات الإعلامية بشأن مساعي السعودية لإنجاز تسوية سياسية في اليمن تكمن في آليات التفاوض بين مختلف الأطراف وشكل الدولة ونظام الحكم وطريقة الشراكة في السلطة وتداولها، وهنا يكمن لب الأزمة اليمنية. وبالعودة إلى الواقع الميداني وطريقة السعودية في إنهاء الصراعات يتضح أن التسوية التي تسعى المملكة لإنجازها تمثل خلاصة السياسة السعودية في البلاد وطريقة إدارتها للأزمة والحرب طوال السنوات الماضية.
من الواضح أن التدخل العسكري السعودي والإماراتي في اليمن لم يكن الغرض منه إنهاء الانقلاب الحوثي وإعادة السلطة الشرعية إلى العاصمة صنعاء، وإنما كان الهدف منح الحرب فرصة كافية لتفكيك اليمن سياسيا واجتماعيا وجغرافيا وإعادة هندسته من جديد، فقد تم تفكيك الجيش وتدميره وإضعافه وإحلال المليشيات البدائية والمتنافرة بدلا منه، وتم تفكيك الدولة اليمنية وإضعافها وإحلال الكانتونات وإداراتها الذاتية بدلا منها.
أيضا، تم تفكيك الأحزاب السياسية وإضعافها وشيطنتها والتجييش الإعلامي والدعاية السوداء ضد بعضها، لدرجة أن حزب المؤتمر الشعبي العام، المقبول لدى الأنظمة العربية التقليدية، تم إضعافه وتفكيكه وتحويل عموده الأساسي إلى كانتون محصور في بقعة جغرافية صغيرة وله تشكيلاته العسكرية الخاصة به تحت مسمى “المكتب السياسي”، وهي تسمية تقزمه وتحوله من حزب سياسي كبير إلى مكتب سياسي يتبع تشكيلات عسكرية.
وبعد تفتيت الدولة وتدمير الجيش وإضعاف الأحزاب السياسية وتمزيقها، تكون السعودية والإمارات قد تمكنتا من تفكيك المشهد اليمني، ولعلهما تريان أن لحظة إعادة هندسة المشهد قد حانت، فالتسوية السياسية التي تريدها السعودية ستكون بين مليشيات وكانتونات وليست بين أحزاب ومكونات سياسية، وستبقى المليشيات هي المسيطرة على الأرض وليس الجيش الرسمي للدولة، وستكون الدولة مغيبة لمصلحة الإدارات الذاتية للكانتونات المسيطرة على الأرض، والتسوية المفترضة ستكون مجرد محاصصات مناطقية وطائفية وقبلية أو جغرافية بين الكانتونات التي صنعتها الرياض وأبوظبي، وهي كانتونات يجرمها الدستور اليمني، ولا تكتسب أي صفة شرعية أو قانونية، باستثناء شرعية الأمر الواقع، وهي صفة تدينها وتؤكد عدم اكتسابها الشرعية الدستورية والقانونية.
الخلاصة هي أن الطبخة السعودية لإنجاز تسوية سياسية في اليمن ستؤسس لواقع شاذ تغيب فيه الدولة والأحزاب السياسية والدستور والقانون والمجتمع اليمني بقواه الحية بشكل عام، وتحضر فيه المليشيات والكانتونات والشخصيات الملطخة أيديها بالدماء ونهب الممتلكات العامة والخاصة، ولذلك من المستحيل إنجاز تسوية مستدامة مبنية على واقع شاذ وتسعى لترسيخ واقع أكثر شذوذا.
وستكون تلك التسوية، إن افترضنا أنها تمت، مقدمة لحرب أهلية عنيفة وحاسمة، أي أن التسوية لن تنجح، وإذا تمت فإنها ستنهار سريعا، وسيظل الصراع في البلاد مستمرا حتى استعادة الدولة والجمهورية والديمقراطية، فالمسألة بالنسبة لليمنيين هي نضال وطني طويل قد يخبو وهجه بفعل ظروف معينة، لكنه سيشتعل عندما تحين اللحظة الفارقة والحاسمة والمصيرية.
متابعات