مَن يُمعِن النظر في قراءة مشكلة الدراما اليمنية التي يتجاوز عمرها العقود الأربعة، وما زالت تراوح دون تحقيق حضور عربي، بل إنها لم تستطع، حتى اللحظة، اقناع المشاهد المحلي بأفضليتها، سيقف أن وراء هذا عدة عوامل متجذرة يمكن تجاوزها، وأبرزها الرؤية الإنتاجية والإخراجية الغائبة؛ فالكثير إن لم يكن الجميع ما زال يعمل بلا رؤية مؤسسية واضحة، معتمدا ارتجال اللحظات الأخيرة. وهنا لا يمكن أن نتجاوز وضع البلد؛ لكن حتى قبل سني الحرب، كانت الدراما تعاني من ذات الإشكالات مع فارق طفيف يجعلنا نضيف إشكالية أخرى ممثلة في غياب التراكمية.
بقدر ما استندنا في تقرير الأسبوع الفائت على شهادة لأحد المخرجين نقف في هذا التقرير على شهادة أحد كتاب النصوص، وهو محمد صالح الحبيشي، الذي يعد مَن أهم كتاب الدراما في اليمن، والذي ارتبط اسمه بعدد من المسلسلات ذات الصيت، ومن أبرزها «كيني ميني» و«عيني عينك» و«قاسم وقاسم» و«مننا فينا» و«حاوي لاوي» و«مع ورور» و«حكاية أنور الوردان» و«أصل الحكاية» بالإضافة إلى برامج متعددة باعتباره خريج إذاعة وتلفزيون وحاصل على دبلوم في النقد التلفزيوني والسينمائي.
التقاليد الإنتاجية
وهو يتحدث عن الدراما اليمنية ينتقد طريقة الإنتاج وانتفاء ما وصفه بالطابع المؤسسي في هذا الجانب باعتباره أهم معوقات تأخرها عن الدراما العربية.
يقول الحبيشي: عندما نتحدث عن الدراما اليمنية، ونسأل لماذا لا تجاري الدراما العربية؟ يجب علينا أن نعرف أننا في اليمن، والدراما في اليمن تعيش حالة خاصة من كل النواحي، وخاصة من حيث المناخ الإنتاجي، ووضع البلد واستقراره. من حيث التقاليد الإنتاجية وطريقة إنتاج الأعمال الدرامية يكاد ينتفي وجود طابع مؤسسي في طريقة الإنتاج، والطابع المؤسسي يعني التخطيط لإنتاج المسلسلات، والتخطيط يقتضي معرفة أن هذا الفن بمثابة صناعة بكل ما تعنيه كلمة صناعة من الاتقان والجودة ابتداء من النص الدرامي وانتهاء بمجمل العملية الفنية المرتبطة بالعمل الدرامي.
ويتابع: ولأن هذا العنصر يغيب في اليمن فقد اعتمد القائمون عليه الارتجال والعشوائية في الإنتاج، وبالتالي الإنتاج في اللحظة الأخيرة؛ واللحظة الأخيرة هي السم القاتل للعمل للإنتاج الدرامي اليمني، حيث أننا لا نشتغل إلا في اللحظات الأخيرة؛ وهو أمر ارتبط بمراحل الإنتاج للأسف؛ فابتداء من الثمانينيات، عندما كانت الدراما في حضن القطاع العام، وانتهاء بظهور القنوات الفضائية الخاصة، نادرا ما نجد قناة أو جهة إنتاجية تبدأ في الإنتاج في وقت مبكر، وإنما في اللحظات الأخيرة، وهذه اللحظات الأخيرة تؤثر على مجمل العمل الدرامي، الذي لا يأخذ حقه في الاهتمام بالتفاصيل، وإنجاز هُوية للعمل؛ وغياب الهوية هي أحد أهم العوائق التي تجعل الدراما اليمنية لا ترتقي إلى مصاف الدراما العربية، بل لم تجد لنفسها شكلا خاصا ابتداءً من اللغة الدرامية التي يجب أن نصطلح عليها كلغة درامية يتحدث بها الممثلون، وتخرج بها الأعمال، كما يحدث حيث تكون هناك لهجة مفهومة نستطيع تسويقها في الخليج على الأقل.
مناخ الحرية
علاوة على المشاكل الإنتاجية وإنتاج اللحظة الأخيرة انتقل الحبيشي إلى عامل يراه ضمن مشاكل الدراما اليمنية، ممثلا في مناخ الحرية العام وغياب الاستقرار الذي يعاني منه البلد.
يقول: من ضمن المشاكل التي تعاني منها الدراما اليمنية، وتؤثر في جودتها عدم تطور المناخ العام والاستقرار، وهذا يؤثر كثيرا على طبيعة الإنتاج، يعني أن الدراما تحتاج إلى نوع من الحرية، والقيود والأسلاك الشائكة تقيد عقل الكاتب، خاصة في اختيار الموضوعات، التي ترتبط بهموم الناس.
وتابع: موضوعات الدراما اليمنية في الفترة الأخيرة تعاني من كثير من الخواء، وتفتقر للعمق، ليس كل الأعمال، وإنما بعض الأعمال، هناك أعمال تستحق المشاهدة، وتناقش هموم وقضايا ترتبط بالناس. لكن مناخ الحرية مهم جدا من حيث أنه يعطي الكاتب القدرة على ملامسة القضايا والجروح؛ وعكسها بشكل فني.
وأشار إلى أن الكاتب صار يفرض على نفسه رقابة ذاتية مضاعفة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة غير المستقرة في البلد.
يقول: أصبح الكاتب، في المرحلة الراهنة، يكتب في ظل رقابة ذاتية مضاعفة، كما أن التجاذبات السياسية جعلته يخاف من أن يُؤطر عمله في اتجاه معين، بينما الدراما موجهه للجميع.
أجور زهيدة
وأشار إلى أن العائد المادي الزهيد الذي يتقاضاه العاملون في الدراما اليمنية يمثل عاملا مهما، محملًا المنتجين المسؤولية، مؤكدا أنهم يستغلون الظروف الصعبة للعاملين خاصة في الآونة الأخيرة.
يقول: للأسف لا يُعطى العاملون في هذا المجال أجورا مقارنة بما هو حاصل في الدول العربية؛ حيث يتقاضى العاملون في الدراما اليمنية أجورا زهيدة جدا، وأصبح المنتجون يستغلون ظروف العاملين الصعبة، خاصة في الآونة الأخيرة، حيث أصبح الممثل والمخرج ينتظرون الأعمال الدرامية من العام إلى العام، وأحيانا يقبلون بالفتات؛ لأنه لا يوجد أمامهم خيار آخر للذهاب إليه.
علاوة على الأجور الزهيدة للعاملين في الدراما اليمنية يشير الحبيشي إلى أن تدخلات المنتج في النص تسهم في انحراف مساره وتراجع جودته.
يقول: كما أن الجهات الإنتاجية تتدخل في النص، وأحيانًا تكون ضد إرادة الكاتب أو المخرج بحكم أنه صاحب العمل، وهؤلاء يكونون غير مؤهلين، لكنهم يمتلكون المال، وبالتالي يتحكمون، أحيانا، وبنوع من الصلف وبدون مراعاة أن المسألة فنية وليست خاضعة لرأي أو صاحب المال.
كما يشير إلى ما يعتبره غياب النقد الفني الحقيقي، «الذي يعد بمثابة المرآة التي تعكس جودة الأعمال. للأسف ليس هناك نفد فني حقيقي، وإنما هناك آراء انطباعية، وأحيانًا توظف بشكل مجحف».
ونتيجة لغياب النقد الفني الحقيقي يعتقد أن الدراما في بلده فقدت القدرة على الاستفادة من التراكمية في تجربتها.
يقول: في أي بلد نعرف أن الدراما تتطور بالتراكم، لكن نجد في سنوات أن الدراما حققت نجاحات، ووصلت إلى مرتبة جيدة من القبول، لكن تأتي سنوات أخرى وتظهر أعمال أضعف مما كانت عليه في السابق. ولو كان هناك نقد حقيقي لإبراز قيمة الأعمال وعدم التطبيل لأعمال دون المستوى لكان هناك تطور ملحوظ.
ورداً على مَن يحمل النص مسؤولية ما تعاني منه الدراما اليمنية يقول الحبيشي: مَن يقول إن هناك ضعفا في القصة والسيناريو، وأنا لا أنفي ذلك في بعض الأعمال، لكن أصبح موضوع السيناريو والنص شماعة يلقي عليها المخرجون والمنتجون، في كثير من الأحيان، تقصيرهم في عدم إخراج العمل المكتوب بالشكل الصحيح؛ ونتيجة لهذا أصبح بعض الكتاب يُظلمون.
وتابع: أتحدث عن تجربتي، في أحيان كثيرة يتم مسخ النص الدرامي، وتشعر أن عملك ذُبح بشكل غير إنساني، بسبب التنفيذ الخاطئ أو عدم إخراجه بالشكل الصحيح. في حال فشل العمل يُرمى كل شيء صوب الكاتب، أما في حال نجاح العمل ترى الجميع يتصدر النجاح، ويكون الكاتب دائمًا أقل الناس حظا في هذا النجاح. يجب أن ننظر إلى السيناريوهات، وكيف نُفذت على الشاشة حتى نعطي كل ذي حق حقه، وأنا بحكم عملي أقول لقد زاد الأمر عند حده، وأصبح الجميع يعلّق كل الأخطاء على الكاتب. إن كان هناك قصور في الدراما فهو يرتبط بالعملية الإنتاجية برمتها.
ويرى الحبيشي أن النجاحات التي تحققت في الدراما اليمنية كانت نجاحات نصوص في بعض الأعمال.
يقول: مهما كانت براعة المخرج وأدواته الفنية في ظل نص ضعيف فلن يستطيع أن يصل العمل إلى الناس، لكن النص القوي هو الذي يصل إلى الناس حتى لو كان الإخراج ضعيفا. معظم الأعمال الناجحة في الدراما اليمنية هي في البداية أساسها نجاح في النص.
متابعات