في مسجد البرازيل بمدينة ساوباولو أكبر المدن البرازيلية وعاصمتها الاقتصادية، يجتمع أبناء الجاليات الإسلامية قبل أذان المغرب من كل يوم خلال شهر رمضان المبارك للمشاركة في الفعاليات الدينية التي تقيمها إدارة المسجد، مثل المسابقات الرمضانية للأطفال والعوائل وفعاليات ثقافية ومحاضرات توعوية وفقهية فيما يخص آداب وشعائر الشهر الكريم وقضايا أخرى تهم حياة وواقع الجاليات الإسلامية في أكبر بلدان قارة أمريكا الجنوبية، حيث يقدر سكانها بحدود 213 مليون نسمة فيما تمثل نسبة المسلمين فيها أقل من الواحد في المئة.
وخلال تواجدنا في المسجد كانت فرقة من الأطفال تنشد قصيدة في الترحيب بشهر رمضان أمام الحاضرين في أجواء مبهجة، فيما تلاهم شيخ أزهري لعله قدم من مصر في بعثة رمضانية لتلاوة القرآن الكريم وثم الأذان بصوت شجي. وفي كل يوم ينظم المسجد سفرة إفطار جماعي يحضره قرابة 300 شخص من جنسيات متنوعة، عربية وأفريقية وآسيوية وحتى من البرازيليين المسلمين وغير المسلمين.
وقبيل صلاة العشاء والتراويح التقينا إمام المسجد الشيخ محمد البقاعي الذي حدثنا عن خصوصية شهر رمضان المبارك في البرازيل قائلا “إن لشهر رمضان المبارك في البرازيل طعم خاص ومختلف. فالجالية المسلمة تستعد له، وخلافاً للسنوات السابقة فإنه أصبح لرمضان بهجة خاصة في قلوب المسلمين ومن أبناء المهاجرين من الأجيال الثانية والثالثة، ونرى هذا الاقبال من قبل الشباب بشكل خاص، وللمساجد دور كبير في تربية وتنشأة المسلم والمحافظة على دينه وهويته وثقافته”.
وحول نشاطات المسجد يقول الشيخ البقاعي “لدينا في المسجد نشاطات عديدة خلال شهر رمضان المبارك، فإضافة إلى الإفطار اليومي المفتوح، فإن لدينا حملات مساعدة محتاجين حتى لغير المسلمين، وأيضا البرامج الايمانية والتربوية والصحية وقد سخرنا لها مواقع التواصل الاجتماعي حيث نبث بشكل مباشر هذه البرامج الحوارية والصحية والاجتماعية وغيرها من المواضيع التي تهم الجالية ضمن برنامج سميناه (المسجد في بيتك) حيث ننتقل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي إلى أبناء المسلمين في بيوتهم، وهذا يخفف عنهم عبء التنقل والحضور إلى المسجد من أماكن بعيدة لان مدينة ساوباولو كبيرة جدا والتنقلات فيها صعبة.
كما ان لنا مدرسة إسلامية تابعة للمسجد فيها حوالي 400 طالب من أبناء المسلمين يتعلمون فيها الدين الإسلامي الصحيح واللغة العربية والآداب ويمارسون النشاطات الثقافية”.
وفيما يخص التحديات التي تواجه المسلمين في هذه البلاد المفتوحة على مصراعيها أمام الحريات الخاصة والعامة يقول الشيخ البقاعي “أمامنا تحديات كبيرة في المحافظة وتنشأة هذا الجيل من أبناء المسلمين في بلد منفتح مثل البرازيل والأفكار والفلسفات والمغريات كثيرة أمام الشباب والمخاطر الاجتماعية كالجريمة والمخدرات وغيرها تحيط بهم من كل جهة، وفي نفس الوقت لا ننسى ان الشعب البرازيلي طيب ويتقبل الآخر وحرية العبادات مكفولة في هذا المجتمع للجميع، لذا نرى من السهل ان ينخربط أبناؤنا بين صفوف هذا المجتمع ويتبادل معه الأفكار والمعتقدات، وهذه تحديات حقيقية تحتاج منا لعمل دؤوب والمسجد هو المكان المثالي للعمل من خلاله وجمع هؤلاء الشباب وأبناء الجاليات المسلمة فيه. كما ان للمسجد مهام أخرى من إجراء عقود الزواج والطلاق والدفن وغيرها”.
ويضيف “هناك تحديات أخرى أو بعض العوائق مثل اللغة، حيث ان الكثير من الأبناء من الجيل الثاني والثالث لا يتحدثون اللغة العربية وهذا أمر يصعب عليهم تعليم أمور دينهم من الصلاة وقراءة القرآن وغيرها، كما ان لدينا نقص في الدعاة والشيوخ ممن يتقنون اللغة البرتغالية من أجل الدعوة والإرشاد وتعليم الناس أمور دينهم بلغة البلد”.
حملات توزيع المساعدات الغذائية
نازك ووفاء العطار شقيقتان من سوريا تعيشان مع عائلاتهم في ساوباولو، تواظبان على مدار أيام الشهر الفضيل على تنظيم حملات لتوزيع حصص من المواد الغذائية على المحتاجين والعائلات المتعففة، وتديران العمل مع مجموعة من النساء في مسجد صلاح الدين الأيوبي الواقع في حي براس الذي يعد الشريان الاقتصادي للمدينة، ويقطنها الكثير من المهاجرين العرب ممن يعملون غالبا في التجارة. تقول نازك لـ”القدس العربي”: “نحن مجموعة من النسوة نتفرغ في كل عام خلال شهر رمضان المبارك لجمع المساعدات الغذائية من الشركات وأصحاب الأموال ممن يتبرعون لأجل هذه الفعالية التي نوزيع خلالها وعلى مدار الشهر الكريم سلات غذائية على المحتاجين من العوائل والأفراد من المسلمين وحتى غير المسلمين سواء المهاجرين أو من البرازيليين الأصليين، ونوزع في السلة الواحدة على سبيل المثال اللحم أو الدجاج مع الخبز وغيرها حسب اليوم وحسب التبرعات التي تصلنا من أصحابها. في السنوات الماضية كنا نقيم في المسجد حملات إفطار جماعية للصائمين ولكن في هذا العام اكتفينا بتوزيع السلال الرمضانية”.
وفي مسجد صلاح الدين الايوبي الذي زرناه سمعنا أكثر من لهجة عربية يتحدث بها رواده. فحارس المسجد وإمامه من مصر فيما يدير المسجد بعض المهاجرين اللبنانين القدماء يؤازرهم فلسطينيون وبعض منهم جدد وصلوا البرازيل منذ سنوات قليلة غير انهم استطاعوا الاندماج بسرعة داخل المجتمع البرازيلي والعربي معا، كما الحال مع صهيب توم وهو من أصل فلسطيني سوري، في مقتبل الثلاثينات من عمره، وصل البرازيل من حوالي سبعة أعوام ويقول “نحن المسلمون في البرازيل نتمتع بكامل الحرية في عباداتنا وإقامة شعائرنا وارتياد مساجدنا دون أي تضييق أو ممانعة سواء من السلطات أو المجتمع البرازيلي المنفتح دائما على الآخرين والمحب للجميع. لدي بعض الأصدقاء من البرازيليين كانوا يستغربون من صيامنا في شهر رمضان وحين شرحنا لهم الحكمة من ذلك أصبحوا اليوم يحترمون حضوري بينهم ويتوقفون عن الأكل والشرب أمامي، بل يحاول البعض تقليدنا في الصيام من أجل ان يستشعر بالحكمة منه، وحينما أبلغتهم ان أبنتي تبلغ السابعة من عمرها وقد خاضت تجربة الصيام ليوم واحد كان استغرابهم شديدا وفي نفس الوقت إعجابهم كان كذلك. نحاول ان نجسد قدر الامكان شخصيتنا العربية والإسلامية المتوازنة أمام هذا المجتمع لكي نعكس من خلال ذلك صورة جميلة أو مقبولة على أقل تقدير، ولعل شهر رمضان الفرصة السانحة لذلك”.
وغير بعيد من صهيب كان أبو نضال وهو فلسطيني في السبعينات من عمره، يتكأ على عكازه حين يقصد المسجد أو السوق، كان جالساً على كرسي في الصف الأول من المسجد حينما نودي من قبل المحيطين بنا لدى زيارتنا المسجد، أقبل وسلم ثم باغتناه بالسؤال: كيف تقضي أيامك في شهر رمضان وكيف مر بكم هذا الشهر خلال سنوات حياتك في البرازيل؟
فقال “منذ ستين عاماً من وصولي إلى البرازيل أي قبل حرب 67 في فلسطين، ملتزم بشعائر شهر رمضان المبارك وقد عشت في العديد من المدن البرازيلية غير انني استقريت في ساوباولو منذ حوالي ثلاثين عاماً. وقد اعتدت علي المجئ إلى المسجد في فجر كل يوم قبل وصول الإمام أفتح الباب وأؤذن لصلاة الفجر، بل تجدني في كل صلاة هنا، رغم اني ما زلت أمارس عملي في التجارة بمحل لي قريب من هنا لكنني أرى من المسجد مكاناً يريحني أكثر. وفيما يخص شعائر رمضان فما زلنا متمسكين بعاداتنا وتقاليدنا كما كنا في بلادنا بل ورثنا ذلك لأبنائنا الذين يورثونه اليوم لأبنائهم”.
ولعل من المفيد ذكره أن الحرية الدينية في البرازيل مكفولة للجميع بدون تمييز بين مواطنيها الأصليين أو المهاجرين إليها، وفي البلاد حكومة يسار يرأسها لولا دا سيلفا، صديق للعرب ومناصر للقضية الفلسطينية، يناصره في المقابل العرب والمهاجرون بل وان العديد من الحملات الانتخابية المؤيدة له كانت تخرج من المراكز الثقافية والدينية للمهاجرين الذين يرون فيه وفي حكومته الأفضل لهم ولمصالحهم وحرياتهم الشخصية كما يقول وليد رباح رئيس الاتحاد الفلسطيني البرازيلي والذي يضيف “نحن نرى ان الحريات في هذا البلد قد وصلت إلى سقفها الأعلى مقارنة ببلاد أخرى ترفع منذ عقود من الزمن شعار الحريات، لم تصل إلى مرتبة البرازيل رغم ان الإعلام كان غير منصف في إبراز هذه الحقيقة التي نحن اليوم كمهاجرين أو من أصول مهاجرة نتمتع بها ونمارس طقوسنا وشعائرنا وتجارتنا وأعمالنا بكل حرية وانسجام مع البرازيلي الذي لا يزاحمنا ولا يضيق بنا ذرعاً حين يرانا قد وصلنا إلى مراتب عليا، ولنا اليوم في البرازيل الكثير من الشخصيات التي وصلت إلى دوائر صنع القرار من النواب في البرلمان إلى رؤساء البلديات وقياديين في الأحزاب والمناصب الرفيعة في البلاد، ناهيك عن المجالات الأخرى كالفن والثقافة والإعلام والسينما، نعم ربما هناك البعض ممن يكيل لنا سواء من الحسد أو الكراهية لكنهم قلة لا تأثير لهم علينا أو على القرار السياسي في البلاد، ولكن علينا أيضا ان لا نقلل من شأنهم، وان علينا كبرازيليين من أصول مهاجرة ان نكد أكثر في عملنا على جميع الأصعدة وان نستمر في رحلة الاندماج والمواطنة في مجتمع منفتح يتقبل الجميع مثل المجتمع البرازيلي”.
متابعات