لم أستوعب بعد فاجعة اغتيال القائد العميد محمد الجرادي، استحضره بقيافته العسكرية الشامخة عند أول لقاء لي به أثناء تواجدي في مأرب، والوجع يتزافر في الأعماق، وكومة أسئلة تتزاحم في مواجهة القتلة:
لماذا الجرادي؟.. لماذا أيادي الغدر دائما ما تختار الشرفاء والوطنيين المخلصين غير الملطخين بالفساد ودماء الأبرياء؟ لصالح من تنفذ هذه المخططات الإجرامية؟
يعد العميد الجرادي، من أوائل القيادات العسكرية التي انضمت للشرعية عقب الانقلاب الحوثي عليها في العام 2014، وكان له شرف المساهمة في تأسيس أول كتيبة أو نواة للقوات الحكومية (الجيش الوطني) في منطقة العبر بحضرموت، أعقب ذلك تأسيسه اللواء 81 مشاة، الذي خاض بطولات خالدة في جبهات نهم وصرواح.
دخل العميد الجرادي بلوائه العسكري، بعد تدريبه وتجهيزه في منطقة العبر في حضرموت، المعركة مع الحوثيين، على جبهتين في نهم شرقي صنعاء وصرواح غربي مأرب، كان ذلك بتكليف من رئاسة هيئة الأركان العامة، حيث ووزير الدفاع اللواء محمود الصبيحي في الأسر لدى مليشيا الحوثي، وكانت هيئة الأركان هي من تدير العمل العسكري ويرأسها محمد علي المقدشي.
مع نهاية العام 2015 وبداية العام 2016، دخلت الكتيبة الأولى التابعة للواء 81 مشاة جبهة نهم، وكان لها دورا بارزا في تحرير أغلب وأصعب المواقع بحكم الطبيعة الجبلية الوعرة للمنطقة، وكانت تحظى بدعم كبير من قائد المنطقة العسكرية السابعة اللواء الركن إسماعيل زحزوح، فيما بقية اللواء دخل جبهات صرواح في مأرب وفرض سيطرته على مساحات واسعة منها مقارنة بإمكانياته ومع ذلك صمد وحقق انتصارات وتقدمات كبيرة.
في أغسطس من العام 2017، جرى تغيير اللواء زحزوح، وكان أول قائد عسكري من أبناء الحديدة يشغل هذا المنصب منذ قيام الجمهورية، من قيادة المنطقة، وفرض حزب الإصلاح القيادي فيه اللواء الركن ناصر الذيباني (أبو منير)، الذي لم يمض أشهر قليلة، حتى سحب كتيبة الجرادي من نهم ليعيدها إلى صرواح، وأجرى تغييرات واسعة لقادة الوحدات في المنطقة السابعة، ومن هنا بدأ استهداف القيادات الوطنية وإقصائها لجهة تعيينات مناطقية وحزبية بحتة، وهو ما انعكس على سير المعركة مع الانقلابيين الحوثيين لاحقا، وسقوط المناطق تلو الأخرى في نهم والجوف والبيضاء، وصولا إلى بيحان شبوة وحريب مأرب ومحاصرة مدينة مأرب من أغلب الجهات، بعد أن كانت المعركة على مشارف صنعاء.
واصل لواء الجرادي قتاله في جبهة صرواح، محققا المزيد من المكاسب الميدانية ومحافظا على ما حققه من مكاسب وانتصارات سابقة، رغم شحة الإمكانيات، والتضييق الذي بدأ يمارس عليه. وكان يتلقى الدعم كغيره من الألوية في مأرب عبر هيئة الأركان العامة، ولم يتلق يوما أي دعم مباشر من التحالف العربي أو دولة الإمارات كما كانت القيادات والناشطين المحسوبين على حزب الإصلاح، يروجون له، بالرغم من أن ما كان يعرف بكتائب “الصقور” في جبهة هيلان، وقاداتها جميعهم محسوبون على حزب الإصلاح، تتلقى الدعم المباشر من القوات الإمارتية قبل مغادرتها مأرب في 2019، وظلت كتائب مستقلة طوال فترة تواجد القوات الإماراتية لغرض احتواء هذا الدعم، ليجري بعدها عملية دمجها بالألوية، والعديد من أفراد هذه الكتائب وقاداتها غادروا مأرب إلى جبهات الحدود في صعدة وحجة. أما باقي الوحدات ومنها اللواء 81، فكانت تتلقى دعمها من التحالف عبر القنوات الرسمية في هيئة الأركان، وكان شحيحا مقارنة بالدعم الإماراتي المباشر المقدم للكتائب سابقة الذكر، وسبب ذلك، لوبي الفساد والنفوذ الذي يسيطر على مؤسسة الجيش ودوائره وهيئاته في مأرب.
في العام ذاته (2017)، ومطلع سبتمبر تحديدا، كان العميد الجرادي، قد تعرض لمحاولة تصفية، وهو في جبهة صرواح صبيحة يوم العيد، بصاروخ موجه منسوب للحوثيين، وقتل وأصيب على إثره عدد من مرافقي وأقارب الجرادي، الذي أصيب هو أيضا بجروح بليغة، نُقِل على إثرها للعلاج في السعودية، وبعد تعافيه صدر له قرارا جمهوريا بتعيينه قائداً للواء 81 مشاه، وعاد لمزاولة عمله قائدا معينا بقرار جمهوري، وسط تنامي الحملات الممنهجة ضده، بغرض تشويه وحجب دوره البطولي والوطني في مواجهة المشروع الانقلابي، تماما مثل تلك الحملات التي طالت اللواء 35 مدرع في تعز وقائده العميد عدنان الحمادي، التي سبقت اغتياله نهاية العام 2019، والفارق الوحيد أن العميد الجرادي كان يخوض صراعه مع قوى الهيمنة والنفوذ والفساد، وحيداً، في منطقة محسومة وخالصة للإخوان، دون حتى نافذة إعلامية تسنده؛ حيث وجهت للاثنين (الجرادي والحمادي) تهم ملفقة بالعمالة والخيانة وغيرها من التهم، من قبل قيادات عسكرية محسوبة على حزب الإصلاح وناشطيه أيضا, ما يشير إلى أن عملية التصفية، كانت هي الأخرى، مدبرة ومخطط لها بدقة منذ فترة طويلة.
كنت أتابع عن قرب، قبل مغادرتي مأرب، ما يتعرض له العميد الجرادي واللواء الذي يقوده حينها، من حملات تستهدفه، كما كنت متابعا لمعركة صرواح الأخيرة التي خاضها قبل قرار نقل لوائه إلى جبهة نهم, وتغييره التي أعقب ذلك بأشهر قليلة، وما سبقه من توقيف وإحالة للتحقيق، وكلها إجراءات كان يقف خلفها المفتش العام للقوات المسلحة والقيادي في حزب الإصلاح عادل القميري، وتخفي في الغالب دوافع سياسية بحتة، ومقدمة للإقصاء والتصفية.
ونستطيع القول إن اللواء وقائده العميد الجرادي، كان يواجه جبهتين الأولى ضد ميلشيا الحوثي, فيما الثانية والتي كانت أشد انهاكا للأبطال تمثلت في التجاهل المتعمد لإسناد اللواء بالدعم والإمكانات حتى الضرورية والأساسية منها، لمواجهة العدو في خطوط النار.
في معركة صرواح الأخيرة التي خاضها اللواء 81 مشاة، كان الجرادي يتقدم الأبطال كما كل المعارك التي خاضها ونجا عديد المرات من موت محقق خلالها، غير تلك المحاولات الجبانة التي كانت تستهدفه داخل مدينة مأرب، وأشرف المفتش العام عادل القميري حينها على عملية عسكرية لاستعادة المناطق التي سقطت بيد الحوثيين، وكان ذلك نهاية العام 2018، بعد أن اخترق الحوثيون الجبهة من ناحية استطلاع المنطقة الثالثة في تبة المطار والتفوا على مواقع اللواء 81 مشاة الذي قاوم الزحف الحوثي من أمامه ومن خلفه، دون إسناده من قبل المنطقة الثالثة بالتعزيزات، سقط إثر ذلك عشرات القتلى والجرحى من أفراد اللواء، كشف الحوثيون عن جثثهم بعد ذلك في تسجيل تلفزيوني بثته قناة المسيرة من داخل المواقع التي سقطت.
كان وقتها، مسرح العمليات في الجبهة، موزع بشكل لا يتناسب مع استراتيجية المعركة والتخطيط العسكري المتبع، حيث كانت قوات اللواء 81 في القلب، ومتقدمة على الميمنة التي كانت ما يعرف بكتائب “ذمار” (شكل منها لاحقا اللواء 203) المحسوبة على وزير الدفاع حينها محمد علي المقدشي تتمركز فيها، وكذلك الميسرة التي تنتشر فيها ما تبقى من كتائب “الصقور”؛ حيث كان من المفترض وحسب ما هو متبع في التخطيط العسكري، أن يكون قلب الجبهة متأخرا على الميسرة والميمنة، لحمايته، وخصوصا أنها كانت تمثل مساحة كبيرة من الجبهة. إضافة إلى ذلك، تعرض اللواء طوال السنوات الماضية لعمليات استنزاف كبيرة، على مستوى الأفراد، دون أن يجري تعويض تلك الخسائر البشرية، التي تتجاوز الألف قتيل وجريح؛ وكان قائد اللواء قد رفع خلال 2017 و 2018، نحو ثمانية بلاغات عملياتية لقيادات المنطقة الثالثة وهيئة الأركان ووزارة الدفاع، تفيد أن اللواء بحاجة إلى تعزيزه بالأفراد لتعويض الخسائر التي فقدها في نهم وصرواح، دون أن تجد تلك البلاغات أي تجاوب أو أدنى اهتمام.
أعقب تلك المعركة قرار سحب اللواء من صرواح إلى المغاوير، لإعادة تجهيزه وترتيبه، وتعويض الخسائر التي فقدها في قوامه البشري والعتاد، غير أن ذلك لم يتم، وجرى مباشرة تصدير اللواء إلى فرضة نهم، لتبدأ هناك فصول جديدة من الممارسات التي لم تكن تصدر عن مؤسسة، تقود عملية تحرير واستعادة للدولة. كما صدر قرار من مكتب علي محسن بإحالة الجرادي للتحقيق واتهامه بالتسبب في سقوط المواقع في صرواح، وشكلت لجنة للتحقيق معه، والتي واجهها بالكثير من الأدلة والبلاغات العملياتية التي كان يطلب فيها تعزيز اللواء بالأفراد والدعم بالأسلحة والذخائر وغيرها من الإمداد والتموين.
في نهم تعامل قائد المنطقة السابعة حينها الذيباني (أبو منير) مع اللواء بشكل غير مسؤول، في تأخير صرف رواتب أفراده، والصرف عبر لجان من قيادة المنطقة وليس عبر اللواء كباقي الوحدات في المنطقة، رغم معرفتهم أن المرّة الوحيدة التي أتيح للجرادي فيها صرف رواتب أفراده عبر مالية اللواء أعاد لخزينة الدولة نحو خمسين مليون ريال من مستحقات القوة غير المتواجدة واستلم حافظة توريد بها، وذلك بمعرفة نائب رئيس الوزراء حينها عبدالعزيز جباري الذي كان يترأس لجنة خاصة بتصحيح الاختلالات في كشوفات الجيش، جرى بعدها اسقاط أسماء العشرات من منتسبي اللواء من كشوفات الراتب واستقطاع رواتب البعض، لمضاعفة المشاكل على قائد اللواء وتأليب الأفراد ضده.
وبحسب إفادات العديد من المصادر العسكرية المطلعة، فإن الذيباني كان يتعامل مع اللواء، على اعتبار أنه المسؤول عن سقوط المواقع في صرواح، بنفس الطريقة التي كانت معممة في هيئة الأركان ولدى المفتش العام ومكتب علي محسن الأحمر، على إثرها حرم اللواء من كافة الامتيازات والاستحقاقات من تموين وتسليح وتغذية وغيرها من المهمات اللوجستية، في مخالفة صريحة للقانون واللوائح العسكرية، بعدها برز الخلاف بين العميد الجرادي وقائد المنطقة الذيباني، بعد استقطاع الأخير نحو 140 مليون ريال، من رواتب ثلاثة أشهر لمنتسبي اللواء، ومصادرة راتب شهر فبراير من عام 2018 البالغ نحو 120 مليون ريال.
بعد نقطة الخلاف هذه، أوقف الذيباني العميد الجرادي عن العمل، وكلف أركان حرب اللواء العميد محمد القطوي بالقيام في مهامه مؤقتا، على أن يتم حل الخلاف في سياق الإجراءات العسكرية المعمول بها، فتوقف الجرادي عن العمل، وبينما هو منتظر حل الخلاف وإعادة الرواتب المستقطعة والمنهوبة، تفاجأ بتكليف علي محسن الأحمر لعبد الوهاب أسعد، الذي جلبه حزب الإصلاح من مناطق سيطرة الحوثين قائدا للواء، ليتم بعدها منع الجرادي من الوصول إلى مقر اللواء في نهم وتجريده من كل مهامه.
وطوال هذه الفترة، بقى الجرادي في مدينة مأرب متمسكا بالقرار الجمهوري ومطالبا بالسماح له بمزاولة عمله كقائد للواء أو تنحيته بقرار جمهوري وإحالته إلى القضاء العسكري إن كان عليه إدانات أو ترقيته وتدويره الوظيفي بحسب اللوائح العسكرية المعمول بها في السلك العسكري.
استمر هذا الحال، وسط تزايد المضايقات التي كانت تستهدفه، ومنع كافة مخصصاته كقائد عسكري، حتى الوقود الذي يمول سيارته العسكرية (الطقم)، ومع كل راتب يصرف كان يضطر إلى أخذ توجيهات خطية من وزير الدفاع بصرفه من قيادة اللواء التي يسيطر عليها حزب الإصلاح عبر ما يسمى مقاومة ريمة. وكانت كل تلك الممارسات والمضايقات تجري بنظر قادة الجيش في مأرب، عادل القميري وطاهر العقيلي وغيرهم من ورؤساء الهيئات والدوائر الخاضعة لسيطرة حزب الإصلاح، بقصد إنهاك العميد الجرادي الذي ظل صامدا في مواجهة هذا العبث والفساد حتى آخر يوم في حياته، دون أن ينكسر أو يقدم تنازلات لا تنسجم وقيمه ومبادئه وشرفه العسكري.
اليوم وبعد تصفية العميد الجرادي، بتلك الطريقة الإجرامية الجبانة، لم تظهر الحكومة ولا وزارة الدفاع وهيئة الأركان والسلطة المحلية في مأرب، أي جدية تجاه ما حصل، حيث لم يعلن حتى الآن عن أي لجنة تحقيق رسمية من وزارة الدفاع غير تلك الإجراءات الأمنية العادية الخاصة بالمحافظة، وكأن ما حدث شيء اعتيادي، ويجري التعامل معه كما لو كان جناية، حتى بيانات النعي والتعازي الرسمية لم تعبر بشكل يليق بالمكانة والمواقف والبطولات التي سطرها العميد الجرادي خلال مواجهته للمشروع الكهنوتي الانقلابي.
هذه صورة مبسطة، لما تعرض له العميد الجرادي من استهداف ممنهج وعمليات إقصاء سبق اغتياله.. خسرنا وخسر اليمن قائدا وطنيا ومناضلا جسورا وعسكريا شجاعا.. الخزي والعار للقتلة.. ولا نامت أعين الجبناء.
بقلم / خليل الزكري
متابعات