أبانت الأحداث الأخيرة في العراق عن معركة جيوسياسية تدور رحاها بين إيران وجهود العراق لتشكيل حكومة في بغداد. تلك المعركة لم يكن لها أن تطفو على السطح، لولا ما كشفه موقف مقتدى الصدر الذي تمكّن في غضون أربع وعشرين ساعة من إظهار مدى قوته، عندما خضعت شوارع العاصمة العراقية للعنف بفعل تصريحاته، قبل أن يتوقف بأمر آخر منه.
هل ارتكبت إيران الغلطة القاتلة حين قررت العبث بتكوين مستقر عبر القرون، له هيكليته ونظامه المنضبط؟ إذ لا يشبه ما جرى في بغداد مؤخراً، بأيّ صورة، الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في العام 2019، والتي ولدت من الإحباط من الفساد السياسي، فقد انطلق العنف هذه المرة مباشرة في وجه النفوذ الإيراني في العراق.
وحسبما كتب أحمد طويج، محلل شؤون الشرق الأوسط المستقل ومستشار منظمة ”سند“ لبناء السلام العراقية غير الحكومية، في الفورين بوليسي، فإن أتباع الصدر حوّلوا بغداد إلى منطقة حرب، إلى أن طلب منهم زعيمهم إنهاء المظاهر المسلحة في صباح اليوم التالي. وخلال ساعة واحدة، توقفت الفوضى في المدينة، بعد أن لقي 21 عراقياً حتفهم وأصيب 250 آخرون.
التجاهل الذي قوبل به بيان الصدر، والذي أعلن فيه انسحابه من الحياة السياسية، صب الزيت على النار، وبدلاً من أن يحصد خصومه السياسيون ثمرة ذلك التعامل البارد، استفزّ موقفهم أنصار الصدر وأجج دوافعهم أكثر.
الصراع الخفي في ذلك المشهد، هو بين المرجعيتين العربية والفارسية للشيعة في العالم اليوم، وهو صراع تاريخي لم يحسم بعد، انطلقت شرارة تجدده في 28 أغسطس الماضي.
نظام دقيق
أتباع الصدر حوّلوا بغداد إلى منطقة حرب ضد التدخل الإيراني
عندما أعلن المرجع الشيعي العراقي آية الله كاظم الحائري تقاعده من منصبه كمرجع ديني بأثر فوري. لم يكتف بذلك، بل طالب أتباعه بدعم آية الله علي خامنئي بدلاً من اتّباعه هو. والحائري يمتلك تأثيراً كبيراً على أنصار الصدر، الأمر الذي فوجئ به الأخير وجعله يتصرّف برد الفعل على الفور ويصدر بيانه الذي أخرج أنصاره إلى الشوارع.
وعلى الرغم من أن الشيعة في العراق ما زالوا بغالبيتهم يتبعون آية الله علي السيستاني ويعتبرونه المرجع الأعلى، إلا أنه زعم أنه اختار الابتعاد عن السياسة. وفي إيران يعتبر الشيعة المرجع الأول لهم المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي، وعلى النقيض من السيستاني، يشارك إلى حد كبير في حكم بلاده ومحاولة التأثير على العراق.
وعلى خلاف ابنه، كان والد مقتدى، آية الله محمد الصدر، يتمتع بنظر كثيرين، بالمؤهلات الكافية ليكون قائدًا روحيًا وزعيمًا سياسيًا، ولكن بعد اغتيال الصدر الأكبر في العام 1999، انقسم الموالون له في ولائهم السياسي والديني.
ولا يرى الكثير من أتباع مقتدى أن الأخير مؤهل شرعياً بما يجعله قادراً على صون مصالحهم، وهم أمام واجب ديني يفرض عليهم اختيار مرجع، لذلك اتجهوا نحو الحائري الذي كان حصل على تأييد الصدر الأكبر على المستوى الديني.
محاولة الإيرانيين إحكام قبضتهم على العراق بالسيطرة المذهبية على أتباع الصدر تبدو محاولة غير مدروسة.
واتخذ الحائري قراراً غير مسبوق باستقالته من تكليفه الشرعي، ما أحدث خللاً في نظام المرجعية الشيعية. فدوره كمرجع لا ينتهي عادة إلا بالموت. وتقف حالة السيستاني الذي يبلغ من العمر 92 عاما مثالاً على ذلك، فهو ما يزال يمارس مهامه رغم تقدمه في السن. كذلك واصل آية الله محمد حسين فضل الله عمله كمرجع على الرغم من دخوله المستشفى عدة مرات، حتى رحيله في عام 2010. كما أنه ليس من الشائع أن يعين آية الله على قيد الحياة خليفته، ناهيك عن اعتراف آية الله العراقي بالسلطة الدينية لرجال الدين في إيران، ويضع قم فوق النجف. وعند هذا المنعطف يبرز الدور الإيراني الذي يريد سحب البساط من الصدر والحد من نفوذه.
محاولة الإيرانيين إحكام قبضتهم على العراق بالسيطرة المذهبية على أتباع الصدر تبدو محاولة غير مدروسة، وقد كان الاعتقاد السائد في طهران أن بوسعهم انتزاع أتباعه منه. إلا أن ما لفت الأنظار أكثر مدى ولاء هؤلاء لمرجعهم، كما في مقاطع الفيديو التي أعلن فيها أحد الصدريين دعمه للصدر ”حتى لو قرر الجلوس مع معاوية بن أبي سفيان“، الشخصية التي يعتبرها الشيعة الخصم الأول للإمام علي بن أبي طالب.
نزول أتباع الصدر إلى الشارع واقتحامهم للبرلمان العراقي رسالة مباشرة موجهة إلى إيران، تقول إنهم بإمكانهم احتلال بغداد وكافة مؤسسات الدولة خلال ساعات، وأن الصدر لا يزال صاحب القرار الأول والأخير عندهم.
معركة الصدر مع الإيرانيين تعود إلى أكتوبر الماضي، حين أعلنت نتائج الانتخابات العراقية، وتركت الأوضاع في العراق وسط مأزق سياسي لا فائز فعلياً فيه ولا خاسر، ولم يكن لدى أي حزب سياسي أغلبية كافية لتشكيل حكومة. وبفوزه بأكبر كتلة، حصل الصدر على 73 مقعدا من أصل 329 مقعدا، متقدماً على التحالف المدعوم من إيران.
عند ذاك شعرت إيران أنها قد بدأت تفقد نفوذها على البلد الذي يواجه معدلات فقر مرتفعة، وظواهر فساد لم تعد خافية على أحد، إضافة إلى زيادة في عمالة الأطفال، ومعدلات بطالة قياسية.
وتعتقد الفورين بوليسي أن الوضع الحالي يمثّل ”أسوأ صراع شيعي داخلي في العراق منذ سنوات“ وإسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين.
اعتقد الصدر أنه يدشّن مرحلة جديدة، وأعلن نيته استبعاد كافة الأحزاب والتيارات المدعومة من إيران من المشاركة في الحكومة الجديدة. ولتنبيهه إلى النهج الذي بات يهدّد مصالحها أرسلت إيران في فبراير الماضي الجنرال إسماعيل قاآني لمقابلته، وتسرّب من لقاء الاثنين أن الصدر وبّخ الضيف الإيراني قائلاً “ما علاقتك أنت بالسياسة العراقية؟“. لكن إيران واصلت ضغوطها على الصدر الذي أخذ يطالب، هذا الصيف، بتنظيم انتخابات مبكرة.
ومن غير المرجح أن تؤدي انتخابات أخرى إلى إصلاح الأضرار الهيكلية العميقة التي أصابت العملية السياسية من جهة، والمرجعية الشيعية من جهة أخرى، لأن الفوضى التي استمرت أربعا وعشرين ساعة تظهر ما يمكن أن يحدث إن ظل الصدريون دون قيادة مسؤولة، وهي مؤشر أيضا على مدى السرعة التي يمكن أن تدخل فيها البلاد في حرب داخلية شاملة بالنظر إلى السكان المدججين بالسلاح. وهذا العنف كلّه تتحمل مسؤوليته إيران التي صعّدت الموقف إلى ذروته وربما تكون الخيوط قد أفلتت من سيطرتها أخيراً بعد أن تدخلت في هندسة روحية عربية لا يفهم الإيرانيون طبيعتها.
متابعات