في الوقت الذي يزداد فيه العالم تواصلاً واتصالاً، نجد الإنسان يزداد عزلة ووحدة، تتضاعف أرقام المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، وتمتلئ قوائم الهاتف بأسماء الأصدقاء، تتوالى الإشعارات وتكثر المكالمات المرئية، لكن يكفي أن تغلق هاتفك لساعة واحدة لتكتشف أن ما يجري ليس أكثر من إشعارات تتبادلها الأجهزة بلا روح حقيقية، هناك فرق كبير بين أن يضيء هاتفك وبين أن يطرق أحدهم باب بيتك.
هذه ليست مقالة مكتوبة على ورق، بل واقع نعيشه جميعاً، أو أغلبنا على الأقل، مرض صامت تتجلّى ملامحه في بيوت يجتمع فيها أفراد العائلة لكن كل فرد يعيش في عالمه المنفصل، وفي مقاهٍ مزدحمة لكن كل طاولة غارقة في الشاشات، وفي صداقات تدار بين تعليق وإعجاب بلا لحظة لقاء وجهاً لوجه، عزلة غريبة تجعل الإنسان محاطاً بالجميع بينما يعيش وحيدا بالفعل، حتى وهو يتظاهر بالانشغال أو يضحك أمام الشاشة.
أخطر ما في هذه الظاهرة أنها لا تظهر في تقارير النمو أو مؤشرات الاقتصاد، لكنها تنمو في الظل حتى تصبح عادة مألوفة، فنكتشف بعد سنوات أن أطفالنا يعرفون أسماء آلاف الغرباء، لكنهم لا يعرفون جيرانهم أو حتى أسماء أقاربهم.
كيف وصلنا إلى هنا؟ لأننا سمحنا للتقنية أن تتحول من وسيلة إلى بديل، استبدلنا المجالس بالسوشال ميديا، والحوارات الطويلة برسائل مختصرة، والزيارات بمكالمات مصورة، أصبحنا نحسب العلاقات بالأرقام لا بالوقت، ونقيس القرب بعدد المتابعين لا بعدد الوجوه التي يمكن أن تجلس معنا وتؤنسنا، صور ترفع قبل أن تعاش اللحظة، سباق مستمر لا يترك وقتاً للجلوس، ولا مساحة لسماع صوت الآخر أو لمشاركة حديث صادق يملأ القلوب.
ما فائدة عالم مفتوح إذا كان القلب مغلقاً ؟ الجواب لا يأتي من مزيد من التطبيقات، بل من عودة الإنسان إلى الإنسان، لقاءات بلا هواتف، زيارات بلا صور، مجالس عائلية لا تتحول إلى بث مباشر، والعودة إلى عادة طرق الباب بدلا من الاكتفاء برسالة «وينك»؟
قد يقول البعض إن هذا مثالي لا يناسب زمننا، لكن الحقيقة أن التقنية وسيلة وليست بديلاً عن الوجه البشري، وقد تبدو هذه دعوة بسيطة، لكنها في العمق دعوة لإنقاذ ما يجعل الحياة حياة، فإذا استمررنا على هذا المسار سنستيقظ بعد سنوات لنجد أننا نعيش وسط آلاف الأسماء، لكن بلا صديق واحد حقيقي، بلا بيت دافئ، بلا حكاية تروى وجهاً لوجه.
الوحدة اليوم ليست فراغ وقت، بل خطر يسرق معنى العمر، وما لم نغير عاداتنا اليومية، سيبقى الإنسان غريباً حتى في أكثر العصور اتصالاً، وسنفقد المعنى الأعمق لوجودنا «أن نكون معاً»، نتشارك حضورنا الفعلي ووقتنا الحقيقي بلا وسائط ولا أقنعة.
متابعات