شهدت العديد من المناطق في مختلف أنحاء العالم، خلال فصل الصيف الحالي، وخاصة في شهر تموز/يوليو وأوائل شهر آب/أغسطس ارتفاعا مهولا وغير مسبوق في درجات الحرارة وصفه البعض بأنه تاريخي. إذ وصلت درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة في عديد المناطق سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في جمهورية الصين، وحتى في دول أوروبية منها إيطاليا وأيضا في الشرق الأوسط. ويؤكد الخبراء والمختصون في المناخ والتحولات المناخية بأن هذا الارتفاع في درجات الحرارة هو جزء لا يتجزأ من تحولات مناخية كبرى يعيشها كوكب الأرض منذ عقود وسرّعت في وتيرتها عوامل عديدة، محذرين من أن هذه الظواهر المناخية الخطيرة والمهددة للحياة على الكوكب الأزرق ستتواصل خلال الفترة المقبلة.
وكان تقرير لصحيفة «الفايننشال تايمز» قد حذّر من «أن درجات الحرارة بالغة الارتفاع في فصل الصيف ستصبح هي الأمر المعتاد الجديد». وقالت الصحيفة إن الطقس الذي حطم كل الأرقام القياسية السابقة ليس مجرد ظاهرة تخص القارة الأوروبية وحدها، بل هي ظاهرة عالمية. وتقول الصحيفة إن بعض العلماء يشعرون بالقلق من أن العالم الذي نعيش فيه يقترب من نقطة تحول كبرى، حيث تؤدي الحرارة إلى تغييرات لا رجعة مناخية فيها. وترى الصحيفة أن الإجراءات المتخذة على المستوى السياسي أو العمل العالمي المنسق ليس بالمستوى المطلوب من أجل تجنب نتائج كارثية قد تحصل على كوكب الأرض.
فالحكومات لا يبدو أنها قامت بما يجب القيام بها عالميا للتقليل من مخاطر هذه التغيرات المناخية ولا هي اتخذت تدابير لافتة للتأقلم مع هذه المتغيرات. وكل ما هناك أن المجتمع الدولي يلتقي في مؤتمرات عالمية يناقش ويشخص الحلول لكن في النهاية لا تجد هذه الحلول طريقها إلى التطبيق.
ظاهرة القباب الحرارية
عامر بحبة من المرصد التونسي للطقس والمياه وهو أستاذ جغرافيا ومتخصص في التغيرات المناخية يؤكد لـ«القدس العربي» بأن هناك عدة مناطق في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية شهدت «قبابا» حرارية وموجات قياسية في درجات الحرارة غير مسبوقة خاصة خلال منتصف شهر تموز/يوليو وتواصلت إلى أواخر هذا الشهر، إذ تم تسجيل قبة حرارية في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة ولايتي أريزونا وتكساس. كما تمّ تسجيل موجة أخرى كبيرة وقبة حرارية قوية وسط المتوسط خاصة في دول شمال أفريقيا وعلى رأسها تونس والجزائر، وكذلك دول جنوب أوروبا المتوسطية وعلى رأسها إسبانيا وإيطاليا واليونان وأيضا فرنسا ومالطا التي شهدت تسجيل درجات حرارة عالية إضافة إلى دول الشرق الأوسط وعلى رأسها إيران والعراق والسعودية، وأيضا بلاد الشام ولكن بدرجة أقل». وأشار إلى أن هناك قبة رابعة تم تسجيلها وسط آسيا خاصة غرب الصين وكازخستان.
أما عن أسباب هذه الظواهر المناخية اللافتة يوضح محدثنا بالقول: «حقيقة هذه القباب والموجات الكبيرة تزايدت كثيرا مع تحطيم لعدة أرقام قياسية تجاوزت الخمسين درجة وأحيانا فاتت ذلك في العراق والولايات المتحدة وفي تونس أيضا، وبطبيعة الحال يدخل كل ذلك في ما يسمى بالتغيرات المناخية». ويضيف: «العالم كله يعرف تغيرات مناخية منذ أكثر من قرن في علاقة بالانبعاثات والغازات الملوثة والغازات الصناعية التي تحبس الحرارة قريبا من سطح الأرض، وبالتالي تزيد هذه الغازات الصناعية السامة في حرارة الهواء الموجود فوق سطح الأرض. ولكن ليس الإنسان فقط هو المتسبب في موجات الحر والاحترار العالمي بل ان المناخ يتغير بطبيعته، وخلال آلاف السنوات قبل الحاضر عرفت الأرض فترات أخرى من الاحترار. إذن التغيرات المناخية ليست جديدة على كوكب الأرض ولكن الإنسان سرّع في وتيرتها وجعلها قوية وأكثر سرعة وقوة وأكثر طولا مع تسجيل أرقام قياسية غير مسبوقة».
تحذيرات أممية وعالمية
ويضيف الخبير في المناخ بالقول: «وهناك ظواهر أخرى طبيعية مثل ظاهرة النينو، التي بدأت مند شهر أيار/مايو وستتواصل خلال الأشهر المقبلة، وهي ظاهرة تتمثل في احترار المياه السطحية لشرق المحيط الهادي. وهذا سوف يؤدي إلى مزيد الاحترار وارتفاع معدل حرارة النصف الشمالي من الكرة الأرضية. فموجات الحر متوقعة خلال الأشهر والسنوات المقبلة خاصة ان الأمم المتحدة ومنظمة الأرصاد العالمية منذ أيام تحدثت عن المرور من مرحلة الاحترار العالمي إلى مرحلة الغليان العالمي، وهو ما أكده أيضا الأمين العام للأمم المتحدة. وتتوقع المنظمات الأممية المناخية والعالمية ان الفترات المقبلة ستزيد من الاحترار على الكوكب الأزرق ومن موجات الحرّ الشديد ومن القباب الحرارية وسيتم تسجيل المزيد من الأرقام القياسية». وأضاف أن الوضع سيزداد سوءا حسب هذه المنظمات المختصة في المناخ وتتمتع بالمصداقية. وهناك ظواهر أخرى تفسّر ازدياد الحرارة مثل ظاهرة «الفوهن» وهي ظاهرة موجود في جبال الآلب الأوروبية الإيطالية والألمانية والسويسرية، ولكن حتى في دولتي تونس والجزائر تمّ تسجيل هذه الظاهرة وذلك في حوض وادي مجردة – وفق قول محدثنا – موضحا أن الرياح الجنوبية الصحراوية عندما تمرّ بسلسلة الظهرية التونسية لمناطق ولاية القيروان في اتجاه حوض مجردة فإن الحرارة تزيد ويحصل احتكاك بين الذرات والمكونات الهوائية، وبالتالي فإن ذلك يسبب المزيد من الحرارة ورياح الشهيلي، كما تسمى في تونس وشمال أفريقيا عموما، وذلك نتيجة احتكاك بين ذرات الهواء ما يزيد في توليد الحرارة. ويشير محدثنا إلى أن «هناك الحرارة المحسوسة وهي تختلف عن الحرارة المسجّلة، أي أن الإنسان يحسّ أكثر بالحرارة خاصة عندما تكون هناك رطوبة قوية في المناطق الساحلية. فالرطوبة العالية تزيد من الحرارة ولكن هذه الأيام، وحتى مع بداية شهر آب/اغسطس ستشهد منطقة شمال أفريقيا ارتفاعا في معدلات الرطوبة والتبخر في المتوسط ما سيزيد من الإحساس بالحرارة رغم ان معدلات الحرارة لن تكون مرتفعة مثل شهر تموز/يوليو الماضي».
أي تأثير للتغيرات المناخية؟
وعن تأثيرات التغيرات المناخية الحاصلة يقول حسين الرحيلي، المتخصص في التنمية والتحكم في الموارد في حديثه لـ«القدس العربي: «إن شهر تموز/يوليو الماضي يعتبر الأشد حرارة على وجه الأرض منذ أن بدأ الإنسان يسجل درجات الحرارة على كوكب الأرض وذلك في عام 1850 وفق خبراء المناخ في وكالة الفضاء الأمريكية». ويضيف الرحيلي: «نعيش أيضا ظاهرة مناخية فريدة وهي القبة الحرارية وهي ظاهرة مناخية استثنائية تؤثر على المناخ بشكل كبير ولعلها أتت من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1995 حيث توفي 700 مواطن ومواطنة خلال ثلاثة أيام فقط في شيكاغو». ويتابع محدثنا بالقول: «نحن عشنا درجات حرارة غير مسبوقة وصلت إلى 46 درجة في تونس في ساعات النهار الأولى، أي في التاسعة والعاشرة صباحا وهذا لم يحصل خلال الستين سنة الأخيرة. فالتحولات المناخية اليوم انتقلت من مجرد بحوث للمختصين في المناخ إلى واقع يعيشه العالم ككل. في تونس مثلا بدأنا نشعر بالتحولات المناخية ونعيش سنوات جفاف عديدة وتراجعا كبيرا في كمية التساقطات إلى درجة أنه مند أكثر من أربعة اشهر بدأت الدولة في تطبيق نظام القطع الدوري للماء بسب شح المياه وارتفاع درجات الحرارة وتراجع الإنتاج الفلاحي».
محاولة التأقلم وسلوكيات جديدة
ويعتبر حسين الرحيلي المتخصص في المناخ بأن كل العوامل والظواهر الراهنة تحتم وتفرض التغيير في العديد من العادات والسلوكيات الحياتية اليومية، لأن ارتفاع درجات الحرارة يفرض حياة جديدة وفق قوله. ويتابع بالقول: «يمكن للعالم في السنوات المقبلة ان يغير أنظمة العمل وساعاته ويعيد تهيئة فضاءات العمل باعتبار ان الناس اليوم يشتغلون في شمس وفضاءات حارقة وفي هذا الإطار علينا أن نتصور أننا نعيش وضعا استثنائيا بامتياز، ووجب علينا ان نفكر بشكل جدي في التكيف مع هذه الظروف باعتبار إن التحولات المناخية لا يمكن التصدي لها بل تقتضي ضرورة التأقلم والتكيف معها بطريقة تضمن التواصل في الحياة على كوكب الأرض».
أما عن مسببات ظاهرة التحولات المناخية فيجيب محدثنا: «طبعا التحولات المناخية هي ظاهرة طبيعية، وظاهرة الاحتباس الحراري تلازم الأرض باعتبار انه لولا الاحتباس الحراري وهذه الغازات الدفيئة الموجودة لكانت درجة الحرارة أقل من 20 درجة، وبالتالي تصبح الحياة على هذه الأرض مستحيلة. فالتحولات المناخية على الأرض لديها دورة تسمى الدورة المناخية تتراوح بين 50 ألف عام وتصل إلى أكثر من مليون عام، وهي فترة قادرة على أن تمكّن الكائنات الحيّة من التأقلم تدريجيا مع هذه التحولات المناخية. ولكن ما يحصل الآن هو تسريع وتيرة التحولات المناخية انطلاقا من ان التلوث ارتفع بشكل كبير ولافت خاصة منذ سنة 1850 وهو تاريخ اكتشاف الطاقات الأحفورية واستغلالها كالفحم الحجري.
واستفحل الأمر مع بداية القرن العشرين مع استعمال المحروقات الأحفورية كالنفط، إضافة إلى استنزاف كل موارد الطبيعة في التصنيع والإنتاج المهول للمنتوجات الصناعية بالطاقات الملوثة التي تتسبب في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغاز الميثان اللذين يمثلان أحد أهم الغازات الدفيئة التي تتسبب في الاحتباس الحراري والذي يعطي حتمية هذه التحولات المناخية التي نعيشها. بمعنى لم نعد نعيش الصيف مثل السابق، بل تداخلت الفصول بشكل لافت وتقلصت كميات الأمطار في بعض المناطق، واحتدت الفيضانات في مناطق أخرى. ونحن كشعوب الجنوب نتحمل عبء نتائج ممارسات لم نساهم فيها، واليوم جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية يساهمان هما فقط بحوالي 45 في المئة من الغازات الدفيئة المتسببة في الاحتباس الحراري. وتساهم مجموعة العشرين الأغنى في العالم وحدها بـ 74 في المئة من الغازات الدفيئة، وبقية الدول، أي تقريبا أكثر من 140 دولة، لا تساهم إلا بعشرين في المئة من هذه الغازات وتتحمل وزر هذه النتائج نظرا لقلة الإمكانيات المادية وهشاشة ظروفها الإيكولوجية وغيرها.
وقال الرحيلي إن من أهم نتائج ظاهرة التحولات المناخية ما يسمى بـ«الهجرة المناخية» أي أن دول جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية هي أكثر الدول التي تشعر بالتحولات المناخية، وهناك جزر بالكامل في المحيط الهادي غمرتها المياه بعد ارتفاع منسوب مياه المحيطات. وبدأت هجرة المناخ تستفحل مع تعمق التحولات المناخية وانتشار ظاهرة الجفاف وتقلص المواد الغذائية». وأضاف محدثنا قائلا: «القارة الأفريقية التي لا تساهم إلا بـ 3 في المئة من الغازات الدفيئة، هي أكثر القارات تأثرا فيما يتعلق بتراجع المحصولات الزراعية والفقر وغيرها والأسباب المناخية عمقت من مآسي القارة».
ويشير محدثنا إلى أن هذه المشاكل ستتصاعد إذا لم تتم إعادة النظر في نمط الإنتاج بشكل عام وفي الاستغلال المجحف للموارد الطبيعية، أو إذا لم تتم إعادة التوزيع العادل للثروة. مشيرا إلى أن العشرين سنة المقبلة ستعرف هجرة مناخية بامتياز.
متابعات