حشود خلف خطوط النار.. معارك محتملة وبوادر تصعيد عسكري في مختلف الجبهات

تتجه الأوضاع في اليمن نحو التصعيد العسكري واحتمال اندلاع مواجهات عنيفة، وذلك بعد تهدئة هشة بدأت منذ مطلع أكتوبر الماضي واستمرت حتى اليوم، وسبقتها هدنة هشة استمرت ستة أشهر، ولا يبدو أن التطورات الجديدة المرتبطة بالملف اليمني ستنعكس إيجابا على مجمل الأوضاع في البلاد، مثل المصالحة السعودية الإيرانية والتقارب بين الحوثيين والسعودية، فالملفات العالقة أكبر من أن تحتويها مصالحات أو مفاوضات ما زال يكتنفها الغموض.

لم تمضِ الحرب في اليمن على وتيرة واحدة منذ اندلاع عملية “عاصفة الحزم” وحتى اليوم، فكل معارك عنيفة تتبعها تهدئة هشة، وكل تهدئة هشة تتبعها معارك عنيفة، كما أن كل تهدئة هشة تكون مجرد استراحة محارب استعدادا لجولات جديدة من العنف والمواجهات العسكرية، وهذا ما دأبت عليه مليشيا الحوثيين، التي تتخذ من أي هدنة أو تهدئة هشة فرصة لحشد مزيد من المقاتلين وتدريبهم سريعا وإرسالهم إلى جبهات القتال، ومراكمة الثروات المنهوبة، وتهريب الأسلحة من إيران، وتطوير ما بحوزتها من أسلحة منهوبة من مخازن الجيش بواسطة خبراء أجانب.

وإذا كانت المعطيات الميدانية حاليا تنذر باستئناف القتال واندلاع معارك عنيفة، فإن المقترحات أو التسريبات بشأن الحل السياسي ووقف الحرب كلها مفخخة بألغام ستجعل من التسوية المأمولة جسر عبور إلى صراعات جديدة لا تختلف عن سابقاتها، فمثلا هناك تسريبات تفيد بأن السعودية تعتزم إنشاء مجلس رئاسي جديد يشارك فيه الحوثيون والإطاحة بالمجلس الرئاسي الحالي، لكن إذا كانت تجربة المجلس الرئاسي الحالي فاشلة، ولم يتمكن من ردم التباينات والخلافات بين أطرافه رغم عداوتهم جميعا للحوثيين، فكيف يمكن لمجلس رئاسي جديد أن يجمع الأضداد تحت مظلة واحدة بحثا عن تسوية لا مكان لها في أجندة مليشيات قطعت أوصال اليمن إلى كانتونات متنافرة.

– حشود ومناورات وخطاب حاد

بعد فشل معركة الحوثيين للسيطرة على محافظة مأرب، ظلت مختلف الجبهات تشهد مناوشات محدودة بين قوات الجيش الوطني والمليشيا الحوثية طوال الهدنة التي استمرت ستة أشهر (مطلع أبريل 2022 – 2 أكتوبر 2022)، وازدادت وتيرة المناوشات منذ نهاية الهدنة في مطلع أكتوبر الماضي واستمرت حتى اليوم، كما فشلت جميع جهود تمديد الهدنة أو التوصل إلى حل سياسي للأزمة.

ويتزامن مع ذلك حدة خطاب مليشيا الحوثيين التي كانت في البداية تهدد باستئناف العمليات العسكرية ما لم يتم تجديد الهدنة وفقا لشروطها، لكن بعد تعثر مفاوضاتها مع السعودية، تهدد المليشيا باستئناف العمليات العسكرية ما لم تستجب السعودية لمطالبها واستئناف المفاوضات معها، بعد أن كانت تلك المفاوضات قد قطعت شوطا بعد زيارة وفد سعودي إلى صنعاء يرأسه سفير المملكة لدى اليمن محمد آل جابر ولقائه ببعض قيادات مليشيا الحوثيين.

وخلال الأسابيع الأخيرة، حشدت المليشيا الحوثية تعزيزات جديدة إلى الخطوط الخلفية في جبهات محافظات مأرب وتعز والضالع والجوف، كما أجرت عمليات تبديل لمقاتليها في الجبهات، أي إعادة توزيعهم، ونفذت عرضا عسكريا بالقرب من الحدود السعودية مع اليمن، وعرضا عسكريا في صرواح بمحافظة مأرب، وقبل ذلك سيّرت مسيرة راجلة لمقاتليها من محافظة ذمار إلى جبهات محافظة تعز، ونفذت عرضا عسكريا آخر بمحافظة إب.

وفي المقابل، يواصل قادة عسكريون في الجيش الرسمي زياراتهم إلى عدد من الجبهات وإلقاء خطابات تؤكد على الجاهزية العالية واستعداد قوات الجيش لمواجهة الحوثيين. ومنذ نحو عامين، تعمل قيادة الجيش الوطني (القوات الحكومية) على معالجة أوجه القصور والإشكالات في مختلف الوحدات العسكرية، وتجري استعدادات مكثفة ضمن برامج تدريبية وتأهيلية متخصصة، في ظل استمرار تلويح مليشيا الحوثيين باستئناف العمليات العسكرية، ورفضها مساعي وقف الحرب والتسوية السياسية.

وفي تطور لافت، شدد رئيس هيئة الأركان العامة، الفريق ركن صغير بن عزيز، في 3 يوليو الجاري، على أهمية رفع قيادة المنطقة العسكرية الأولى جاهزيتها البشرية والقتالية لمواجهة التحديات، يأتي ذلك بالتزامن مع استمرار تصعيد المجلس الانتقالي وتهديداته بالسيطرة على محافظة حضرموت وطرد قوات المنطقة العسكرية الأولى من وادي وصحراء المحافظة.

وفي سياق التحركات المضادة لتحشيد مليشيا الحوثيين، زار وفد عسكري من قوات التحالف السعودي الإماراتي، في 14 يوليو الجاري، الخطوط الأمامية في جبهات المحور الشمالي بمحافظة صعدة، واطلع على جاهزية قوات الجيش في جبهات القتال، ويرأس الوفد قائد مركز العمليات المشتركة، اللواء الركن عبد الكريم المطيري، وركن العمليات المشتركة، العميد تركي الأحمري.

– هل الحرب شرط للسلام؟

يصف كثيرون التصعيد العسكري من حين لآخر بأنه محاولة من بعض الأطراف لتحسين موقفها التفاوضي، لكن الحقيقة هي أن هناك أطرافا لديها مشاريع ومواقف حاسمة غير قابلة للتفاوض أصلا، فمثلا مليشيا الحوثيين لديها رؤية عنصرية وعقائدية فيما يتعلق بالسلطة والثروة، وتريد إعادة نظام الحكم الإمامي، وإقصاء جميع الأحزاب والمكونات السياسية، بل وإلغائها تماما، بينما المجلس الانتقالي المدعوم من السعودية والإمارات هدفه انفصال جنوب اليمن والانفراد بحكمه وإقصاء جميع الأحزاب والمكونات الأخرى.

ومثل هكذا مشاريع مغلقة ومتطرفة ومدعومة من الخارج، فإن هدف أصحابها هو حسم المعركة لمصلحتهم، وليس توسيع سيطرتهم الميدانية لتحسين موقفهم التفاوضي في مفاوضات الحل السياسي، لأن كل طرف منهما يسيطر على مساحة من الأرض أكبر من حجمه، ولا يمكنه ابتلاع المزيد، وتلك السيطرة لا تعني أن كل طرف قد حقق مكاسبه الميدانية بفضل قوته العسكرية، ولكن ما حصل أن هناك توزيعا قسريا للنفوذ والسيطرة على الأرض حدد معالمه التحالف السعودي الإماراتي، لأسباب لا علاقة لها بمعركة استعادة الدولة ولا بمصالح الشعب اليمني.

وتعد الحكومة الشرعية الطرف الأضعف حاليا، بل تبدو الطرف الوحيد الذي بحاجة لتوسيع رقعة سيطرته على الأرض لتعزيز موقفه السياسي والعسكري وليس تحسين موقفه التفاوضي، لأن تفاوض الحكومة الشرعية مع مليشيات انقلابية منزوعة الشرعية أمر غير منطقي كونه يتعارض مع واجب الحكومة الدستوري والقانوني حيال كيان الدولة والمواطنين، والمتمثل في حشد الدعم المحلي والإقليمي والدولي بكل الوسائل المتاحة لاستعادة الدولة والقضاء على المليشيات الانقلابية في صنعاء وعدن وغيرهما، وعدم التفريط بالأراضي اليمنية ورفض الانتهاكات المستمرة لسيادة البلاد.

لكن الحكومة الشرعية تعرضت لحرب غير معلنة من جانب التحالف السعودي الإماراتي، حتى جعلها الطرف الأضعف في معادلة الصراع، وزاد من وطأة الأمر الاستسلام التام من جانب الحكومة الشرعية للتحالف، ولم تظهر أي مواقف رسمية رافضة لمؤامرات التحالف على اليمن، الذي شكل مليشيات ومكونات متنافرة وأغدق عليها بالمال والسلاح، وترك مليشيا الحوثيين ترسخ سيطرتها في معظم محافظات شمال البلاد ذي الكثافة السكانية، وبذلك يكون قد أسس لمشاريع فوضى وحروب أهلية دائمة لا يمكن التكهن بموعد وكيفية نهايتها.

إن الشرط الأساسي لتحقيق السلام هو أن تبسط الحكومة الشرعية سيطرتها على الأراضي اليمنية كافة، ونزع سلاح المليشيات، وما عدا ذلك ستظل الحرب قائمة إلى أجل غير مسمى، لأن المليشيات والكانتونات المتنافرة هي مشاريع حروب وسفك دماء وخراب ودمار ونهب وظلم اجتماعي، وهذا ما يتجسد واقعا في البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات، حيث فرض التحالف السعودي الإماراتي توزيعا قسريا للقوة والنفوذ والسيطرة على الأرض بين مختلف الأطراف بطريقة تضمن ديمومة الصراع وليس إنهائه. ورغم المعارك التي دارت من قبل، إلا أن خطوط التماس ظلت ثابتة، وخريطة السيطرة لكل طرف لم تتغير إلا في نطاقات ضيقة.

– حروب للقضاء على السلطة الشرعية

كانت بداية المعركة في اليمن تهدف إلى القضاء على الانقلاب الحوثي وعودة السلطة الشرعية إلى العاصمة صنعاء وقطع يد إيران في اليمن، غير أن الإدارة العبثية للمعركة من جانب التحالف السعودي الإماراتي، حصر ما بقي من هياكل للسلطة الشرعية في مساحات محدودة في محافظات مأرب وتعز وحضرموت، ذلك أن المجلس الانتقالي يسيطر فعليا على أجزاء من محافظة حضرموت تتمركز فيها قوات إماراتية ومليشيا محلية موالية لها، ومليشيا الحوثيين تسيطر فعليا على أجزاء من محافظتي تعز ومأرب.

بمعنى أن هندسة الرياض وأبو ظبي للوضع الميداني لم تترك للسلطة الشرعية حتى محافظة واحدة تسيطر عليها بالكامل، وبدلا من حديث الحكومة الشرعية سابقا عن تحرير بعض المحافظات التي سيطرت عليها مليشيا الحوثيين، أصبحت تلك المليشيا تتحدث عن تحرير ما بقي من مأرب وتعز، بينما مليشيا المجلس الانتقالي تتحدث عن تحرير محافظة حضرموت، وهنا تكون الحكومة الشرعية أمام اختبار صعب، فإذا سيطر الحوثيون على محافظة مأرب فإن ذلك سيضعف موقفها في حضرموت، وإذا سيطر المجلس الانتقالي على حضرموت فإن ذلك سيضعف موقفها في مأرب.

الخلاصة، ستدور المعارك المقبلة بشكل رئيسي في جبهات مأرب وتعز وحضرموت، وبشكل ثانوي في جبهات أخرى أقل أهمية، وتتصدر مأرب المحافظات المهددة باندلاع معارك عنيفة، ذلك لأنها تكتسب أهمية خاصة كونها غنية بثروات النفط والغاز التي تغري مليشيا الحوثيين، وبنفس الوقت فالحكومة الشرعية ستستميت في الدفاع عنها لأهميتها الاقتصادية وباعتبارها آخر قلاعها الحصينة. وتلي مأرب محافظة تعز، باعتبارها أحد مراكز الثقل السياسي والعسكري، فضلا عن أهميتها الجغرافية لإطلالتها على مضيق باب المندب.

وأما محافظة حضرموت، فالسيطرة عليها مسألة وجودية بالنسبة للمجلس الانتقالي ولمشروع الانفصال. وإذا سيطرت مليشيا المجلس الانتقالي على محافظة حضرموت، وسيطرت مليشيا الحوثيين على محافظة مأرب، فإن ذلك يمثل ضربة قاضية للحكومة الشرعية، وهذا هو ما يسعى له التحالف وظل يعمل على هندسة الأوضاع لتمريره، وفي هذه الحال سيبرز الدور الشعبي ليملأ الفراغ الذي سيخلفه غياب السلطة الشرعية، وستظهر حركات وطنية مسلحة تعيد الأمور إلى نصابها. وبالنظر إلى الواقع المعقد حاليا وأعباء استعادة الدولة، ليس مبالغة القول إن الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد.

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اخترنا لك
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى