اندلعت احتجاجات واسعة في إيران بعد وفاة الشابة “مهسا أميني” (22 عامًا)، بعد اعتقالها وضربها من قبل شرطة الآداب لارتدائها الحجاب بشكل غير صحيح. وتعد هذه الاحتجاجات هي الأكبر منذ مظاهرات 2019 ضد ارتفاع أسعار الوقود، والتي أدت إلى وفاة أكثر من 1500 شخص.
وبدأت الاحتجاجات في منطقة شمال غربي إيران حيث الأغلبية الكردية، لكنها امتدت إلى حوالي 50 مدينة وبلدة في جميع أنحاء إيران، بما في ذلك طهران ومشهد وقزوين.
وتأتي وفاة “أميني” بعد أقل من شهرين من إدخال قانون جديد يعزز قواعد ارتداء الحجاب، وقد أثار القانون غضبا حتى قبل أن يدخل حيز التنفيذ.
وتعد الأحداث الأخيرة مؤشرًا آخر على تراجع شرعية الثورة الإسلامية التي يستند إليها النظام الإيراني. لكن من غير المرجح أن تهدد هذه الانتفاضة النظام بشكل مباشر وفوري، حيث تشهد السنوات الماضية على قدرة قوات الأمن على قمع مثل هذه الاحتجاجات.
وبالنظر إلى قدراته القمعية وتفتت المعارضة، فإن النظام ليس على وشك الانهيار، لكن الحكومة هشة وتزداد ضعفًا، وهناك شكوك في استمرارها على وضعها الحالي بعد وفاة المرشد الأعلى “علي خامنئي”.
تاريخ من قمع المعارضة
خلال ربع القرن الماضي، أعرب الجمهور الإيراني في مناسبات كثيرة عن معارضته للنظام الذي يحكم البلاد، لكن الحكومة تفاجأت من آخر جولة من الاضطرابات.
حيث شملت حرق متظاهرين لصور “خامنئي”، وإشعال النار في مقرات ومركبات أجهزة الأمن الداخلي خاصة “قوات الباسيج” ومهاجمتهم بالأسلحة النارية والبيضاء.
وتوعد الجيش الإيراني بمواجهة ما وصفه بمؤامرات العدو وتعهد بتأمين السلام في جميع أنحاء البلاد، واعتبر أن “الاحتجاجات جزء من استراتيجية العدو لإضعاف النظام الإسلامي”، فيما دعا فيلق “الحرس الثوري” القضاء إلى فضح أولئك الذين ينشرون الشائعات والأكاذيب ويهددون المجتمع.
وحدثت أخطر احتجاجات منذ ثورة عام 1979 في عام 2009، بعد فترة وجيزة من خروج نتائج الانتخابات الرئاسية بخسارة مرشح المعارضة “مير حسين موسوي” و فوز “محمود أحمدي نجاد”.
حيث حشدت المعارضة ما يقرب من 5 ملايين متظاهر في شوارع طهران، وهتفوا “من سرق صوتي أيها الديكتاتور؟” واتهموا السلطات بتزوير الانتخابات.
وردت قوات الأمن على الاحتجاجات بالقمع الشديد، ما أدى إلى اعتقال مئات الناشطين، وقتل العشرات، ووضع قادة المعارضة البارزين تحت الإقامة الجبرية.
وسلطت هذه الأحداث الضوء على سيطرة الأجهزة الأمنية تحت القيادة المباشرة للمرشد الأعلى.
وفي ذلك الوقت، قال مساعد قائد “الحرس الثوري” للشؤون السياسية إن قواته لن تسمح لأي مجموعة بتقويض مبادئ الثورة، كما هدد قائد شرطة طهران مؤيدي “موسوي” بالعقاب إذا شاركوا في تجمعات غير مصرح بها.
وفي عام 2020، بعد أن أسقط الحرس الثوري بطريق الخطأ طائرة أوكرانية، نظم كثير من الطلاب احتجاجات يومية، وهتفوا “ابتعدوا عن وجوهنا يا رجال الدين”.
كما دعوا إلى الإطاحة بـ”خامنئي” الذي يشغل منصبه منذ عام 1989، ولم يظهر المتظاهرون أي خوف وهم يهتفون بشعارات تتحدى قدسية “خامنئي” والمؤسسة الدينية الحاكمة.
لكن في إيران، تعد الاحتجاجات أمرا موسميا، حيث تنتظر المعارضة حدثًا يمكن من خلاله إعادة تأكيد نفسها، لأنه بمرور الوقت فقدت المعارضة زخمها وقدرتها على تحدي الحكومة.
ولم تمنع سياسة “صفر تسامح” تجاه المعارضة، الإيرانيين من التعبير عن غضبهم في الشوارع، وقد تحدى الشباب المحبط سلطة “خامنئي” حيث أحرقوا صوره وصور المرشد الزول “الخميني” في جميع أنحاء البلاد.
الكفاح من أجل الحرية
إن فشل الثورة الدستورية الفارسية (1905-1911) لم يثنِ الإيرانيين عن الضغط على الحكومة من أجل الإصلاح الديمقراطي والتوزيع العادل للثروة.
وركزت سلالة “بهلوي” التي حكمت إيران من عام 1925 إلى عام 1979 على التنمية الاقتصادية، إلا أنها أحرزت تقدمًا ضئيلًا نحو الانتقال الديمقراطي.
وشملت مشاريع التحديث الواسعة لـ”رضا شاه بهلوي” بناء جامعة طهران وتطوير نظام السكك الحديدية وبناء الطرق وإطلاق المشاريع الصناعية وتحرير النساء.
بعد عودة نجل “رضا شاه” إلى إيران بعد انقلاب عام 1953 والإطاحة برئيس الوزراء “محمد مصدق”، واصل “محمد رضا شاه” سياسة التنمية التي اتبعها والده.
وفي الستينيات من القرن الماضي، أطلق ما يسمى بـ”الثورة البيضاء” وهي سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي شملت تصنيع بدائل للواردات ومشاريع تنموية.
وأثارت سياسات “بهلوي” هجرة هائلة من الريف إلى المدن، وتزامنت سياسة التحديث مع قرار الشاه بمزيد من تركيز السلطات من خلال إنشاء نظام قائم على الحزب الواحد في عام 1975، وقمع الحريات الشخصية، اعتمادًا على شرطة السافاك السرية لقمع المعارضة.
وعندما جاء “الخميني”، قضى على الأحزاب القومية والعلمانية وفكك أجهزتهم الاجتماعية والتنظيمية بشكل يضمن عدم عودتهم أبدًا إلى الساحة السياسية.
وكانت الانتخابات البرلمانية في عام 1996 مؤشراً على قوة الحركة الإصلاحية. وفي العام التالي، تم انتخاب الإصلاحي “محمد خاتمي” رئيسا للبلاد. وشجعت التحولات في الرأي العام الأصوات التي تدعو إلى فصل الدين عن السياسة.
ولكن بعد انتهاء فترة “خاتمي” دفعت السلطات بـ”أحمدي نجاد” المحافظ إلى الرئاسة، ولم تعترف الحكومة الجديدة بالتحولات التي حدثت في المجتمع الإيراني وقمعت أصوات المعارضة بوحشية، بما في ذلك خلال احتجاجات عام 2009.
وبالرغم فشل سلالة “بهلوي” في تعزيز القيم الديمقراطية، فقد قاموا بتحسين مستوى المعيشة في إيران ونفذوا مشاريع تنموية كبرى، أما نظام الملالي فقد دمر الاقتصاد وأفقر الناس وقمع الحريات الاجتماعية.
وانخفض إجمالي الناتج المحلي الإيراني من 599 مليار دولار في عام 2012 إلى 231 مليار دولار في عام 2020، ووصلت مستويات المعيشة إلى أدنى نقطة لها منذ أكثر من قرن، وارتفعت الأسعار بشكل جعل معظم الإيرانيين غير قادرين على شراء السلع الأساسية.
الشلل السياسي
من عيوب الهيكل الهرمي للنظام الإيراني أنه يجعله غير قادر على التكيف مع تطور الظروف المحلية والدولية، مما يؤدي إلى فشل سياسي مزمن. وبسبب شلل مؤسسات الدولة، أصبح من الصعب اتخاذ كثير من القرارات المؤثرة في الوقت المناسب.
لكن ذلك لم يمنع الحكومة من تنفيذ تدابير قسرية شديدة عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.
وخلال الأحداث الأخيرة، قامت الحكومة بحشد مؤيديها للتظاهر ضد “أعمال الشغب” الأخيرة، حيث نظم “المجلس الإسلامي لتنسيق التنمية” الاحتجاجات الرسمية ودعا إلى تجمعات عامة تدعم الحجاب.
وحذرت خطبة الجمعة في طهران المتظاهرين المناهضين للحكومة من مواصلة الاحتجاجات، واتهمتهم بتنفيذ أجندة أجنبية.
وقال الرئيس “إبراهيم رئيسي” إن المظاهرات الموالية للحكومة أظهرت قوة الجمهورية الإسلامية. لكن مع انتشار الاضطرابات، فشلت الحكومة في تبني أي تدابير لمعالجة مطالب المتظاهرين.
وبدلاً من ذلك، اعتمدت على قواتها الأمنية لسحق الاحتجاجات حتى أنها وظفت قوات أمن نسائية قاسية لتفريق المتظاهرات للمرة الأولى.
ويبدو أن إيران تتحول تدريجياً من دولة ثيوقراطية إلى دولة يهيمن عليها الحرس الثوري، والذي يعتبر نفسه حارسًا لمبادئ الثورة الإسلامية، ويمكن أن تمهد وفاة “خامنئي” الطريق للانتقال إلى نظام حكم مزدوج قائم على زعيم ديني يتمتع بسلطات محدودة ورئيس من صفوف الحرس الثوري.
وبالنظر إلى التآكل المستمر لمكانة رجال الدين، فمن غير المرجح أن يحتاج “الحرس الثوري” على المدى الطويل إلى مرشد أعلى لاكتساب شرعية سياسية، ويمكن أن تتطور مثل هذه الحكومة لتصبح أوتوقراطية بقيادة زعيم عسكري.
وقد شهدت إيران عملية مماثلة في العشرينات من القرن العشرين عندما أطاح العقيد “رضا خان”، الذي أصبح رئيسًا للوزراء في عام 1921، بـ”أحمد شاه” في عام 1925 وأنشأ حكم سلالة “بهلوي”. صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن غالبًا ما تحدث أحداث مشابهة.
متابعات