القمرية … أصالة وفن
القمرية … أصالة وفن
دراسة اعدها / زيد الفقيه
مدخل
تلازم بناء البيت اليماني بعدد من اللَّوازم المعمارية المتوارثة والتي تضفي علية رونقاً جمالياً مبهراً ، من هذه اللوازم الجمالية القمرية ، وهي أحد مكونات البناء في العمارة اليمنية ، وهذا الطابع المعماري ليس جديداً على البناء الحديث في اليمن، فقد وثقت كتب التاريخ وكتب فن العمارة الصنعانية ظهور القمرية في البيت الصنعاني منذ العصور القديمة لبناء مدينة صنعاء، حيث تذكر كتب التاريخ أن بناء صنعاء كان في عهد سام بن نوح ، وتذكر أيضاً أن وهب بن منبه (صاحب كتاب التيجان في ملوك حمير) قال : لما بنا غُمدان سام بن نوح وبلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة ـ هذه الرخامة هي من نفس رخامة القمريات القديمة ـ وكان يستلقي على فراشه في الغرفة فيمر به الطائر فيعرف الحِدأ من الغراب من خلف الرخامة ، وغُمدان قصرٌ مؤلف من عشرين دوراً تعلوها شرفة ومفرج سقفه من الرخام ، وكان هذا أول بناء شاهق في صنعاء ، وأول بنيان يشيَّد بالآجر بدلاً عن الطوب البني ، وقد ذكر أبو الحسن الهمداني في كتاب الإكليل أن القمرية كانت من أهم عناصر تشكيل واجهة قصر غُمدان التاريخي ، وكانت من الرخام المصقول (الالباستر) وله خاصية تكثيف الإضاءة النهارية خاصة عند إغلاق أي فتحات تتسرب منها الإضاءة ، فبعد عملية إحكام إغلاق الفتحات فإن فارق شدة الإضاءة قبل الإغلاق تقارب نسبياً شدة الإضاءة بعد الإغلاق مع فارق بسيط ، وكذلك هو الحال حين رؤيتها في حلكة ظلمة الليل من الخارج عند الإضاءة الصناعية للفضاءات الداخلية للمبنى ، وبخاصة القمريات الكبيرة دائرية التشكيل الفراغي ،إذ تشكل إلى أحجام متعددة وأشكال مختلفة تقتضيها طبيعة المساحة الفراغية داخل المبنى ، وتعد القمرية من العناصر الوظيفية الجمالية المميزة للعمارة اليمنية ،حيث يتم وضعها فوق أعتاب النوافذ الخشبية ، وقد سُمِّيت بالقمرية نظراً لشفافيتها وصفائها اللذين يسمحان بدخول الضوء الذي يرى من الداخل كضوء القمر ، وفي كل نافذة كوَّةٌ ، وأهل اليمن يسمون النافذة طاقة وتسمى الطاقة شباك ، وفوق هذه الطاقة أو الشباك الزجاج الملوَّن أو لوح من الرخام شديد الصفا يكاد من صفائه يكون كالزجاج رقيقاً شفافاً ، ويسمي أهل اليمن الرخام القمرية لأن ضوء القمر بالليل يدخل إلى المكان بسبب صفاء هذا الرخام ، وهو أمتن من الزجاج ، وهو معدن يوجد بجبل الغراس في الشمال الشرقي من صنعاء بمسافة ثلاث ساعان .
وللقمرية أبعاد وأشكال مختلفة تتباين وفقاً لنوعية وطبيعة الفضاء المعني إضاءته ، وتحدد نوعية القمرية وفق مواضعها في الفضاء المنزلي ، ويذكر المؤرخون من أهل صنعاء ومنهم زيد بن علي عنان أن ” القمري التي فوق النوافذ كانت تستعمل في أكثر البيوت بدل العقود الزجاجية وهي ألواح من القمري الناصع البياض (الرخام) ، وكان له صِنْعة اختفت الآن وحل محلها العقود الزجاجية . والقمري يعطي ضوءاً كافياً ويمنع دخول الشمس ، بخلاف الزجاج، حتى تضطر أكثر البيوت لوضع عقد خارجي ويكون عادة من الزجاج الأبيض يمنع دخول الشمس والغبار إلى العقد الداخلي (الملاون) الجميل ، ويلاحظ في بعض البيوت القديمة أن بعض عقود القمري تكون في معظم غرف البيت وخصوصاً
الجهة الغربية ” ،وقد تعددت التسميات للألواح التي تغطي المساحات الفراغية فوق النوافذ بحسب ثقافة البيئة التي هي فيها لكن المؤكد أن اليمنيين قد تفننوا في ابتكار تشكيلاتها وتعبيراتها وفقاً لهذه الثقافات المتعددة.
أحجام القمرية الرخامية :
أـ القمرية الصغيرة : و هي التي تغطي الفتحات الصغيرة المفردة أو المتجمعة والتي تعلو المدخل الرئيسي أو الفرعي للمبنى ، وعلى الامتداد الرأسي للفضاءات الداخلية : بيت الدرج ،المخازن ، والمطبخ وغيرها. وتشكل القمرية الصغيرة مع الكبيرة في الفضاءات الكبيرة منظومة ضوئية في إضاءة المبنى الصنعاني
ب ـ القمرية الكبيرة : وهي القمرية الواسعة المنفتحة والأكثر انتظاماً في الشكل ، وأكثر الأشكال لها هو الشكل الدائري، وحِدْوة الفرس، وهي في الأغلب تعلو فتحات النوافذ ، وتكون منفردة ، أو تعلو إطار النافذة الكاذبة التي تعمل لغرض المنظر الجمالي للمبنى ، وهي عبارة عن لوحين رقيقين من الرخام ، موضوعين الواحد فوق الآخر بصورة فائقة الأناقة والجمال ، ويزخرف أحياناً بزخارف طرفية مضافة تعطيه قوة جمالية من خلال التضاد اللوني بين الأبيض الفاتح للقص والبُنِّي المُحْمر الداكن للياجور . ولكن الفصل بين القمرية الصغيرة والكبيرة جاء لتطابق الوظيفة ، واختلاف وتباين الشكل والموضوع ، وكانت ولا تزال العنصر المعماري المتميز والمتفرد للطراز المعماري اليمني خاصة منه
الصنعاني الذي تكثر فيه الزخرفة المعمارية ومنها الشبابيك أو الطيقان ، وفوق هذه الطاقات الشباك الذي يغلق بلوح من الرخام شديد الصفاء ، وأكثر البيوت في أعلا الطبقات يبنون غرفة جميلة مربعة تنظر من نوافذها أكثر الجهات إلى البرية والجبال تسمى المنظر بفتح الميم وسكون النون ،وبعض أهل اليمن يسمي هذه الغرفة المفرج ، وهذا المفرج يكون في الأدوار العلوية ، وتكون نوافذه حديثة جديدة وهذا المفرج يكون هو حجرة الاستقبال ، وهي مفتوحة من جهاتها الثلاث ، وتكون أمامها شرفة تستطيع النساء التنزه فيها دون أن يراهن أحدٌ ، وتولى هذه الحجرة (المفرج) عناية خاصة إذ تكون أجود وأضخم القمريات في هذه الحجرة ، ومن خلال نوافذها الواسعة المنخفضة التي تعلوها قمريات جصِّية معشقة بزجاج زاهي الألوان ينشر أشعة الشمس أقواس قزح داخل الغرفة
أنواع القمرية الرخامية
1ـ المكوكبة : وهي التي تبدو للناظر بعد انعكاس النور على المادة المرمرية عليها كضوء الكوكب ، وقد تكون دائرية أو مستطيلة .
2ـ الشريفة : تأتي مادتها أكثر صفاءً ونقاءً .
3ـ الوسطى : وهي متوسطة الحجم لا صغيرة ولا كبيرة .
4ـ خُضّيْر : تأتي مادتها الرخامية مُخْضرَّة على سواد خفيف
5ـ البشائر : ومادتها مُخْضرَّة على سواد خفيف أيضاً.
هذه القمرية الرخامية التي يسميها أهل صنعاء بالقَمري لم يعد يستعملها ـ في الوقت الحالي ـ سوى بعض تجار صنعاء وأثرياؤها في النوافذ المغلقة أو ما يسمى بالنوافذ (العجمي ) وليس لها أي دور من ناحية الإضاءة لكنها تضفي جانباً جمالياً أما على الواجهات الخارجية للمبنى أو الداخلية في المفارج أو الصالات الخاصة بالاستقبال، ويعتبر الحرفي عبدالوهاب محمد الصيرفي الوحيد الذي ما يزال محافظاً على عمل هذه القمرية القديمة وينتج منها تشكيلات متنوعة بحسب طلب أصحابها ، ولم يعد يعمل فيها كوظيفة رئيسية تكون هي مصدر رزقه الوحيد يمارسها بشكل يومي ، لكنه يمارسها وقت فراغه حيث وقد توقف استعمالها كمهنة يومية منذ سنوات طويلة تعود إلى مطلع القرن العشرين.
صناعة القمرية الحديثة
تعرَّف اليمنيون ـ منذ عهد سام بن نوح ـ على هذا النوع من الأحجار الشفافة التي سُميت بالقمرية ، أو (القمري ) واستمرت جزءً من التكوين الفني المعماري اليمني ، الذي يفتح فضاءً للضوء في أروقة العمارة اليمنية ، لكن اليمنيين وتحديداً (اليهود) كانوا قد توا شعوا مع المسلمين في ابتكار مادة جديدة لتغيير صورة القمرية التقليدية الرخامية ، إذ كانت قد دفعت إلى ذلك عوامل عديدة من أهمها :
1ـ زيادة مساحة النوافذ . 2ـ ارتفاع البناء إلى طوابق عديدة .
3ـ ثقل المادة الرخامية الخاصة بالقمرية الرخامية
4ـ الحاجة إلى المساحات الواسعة المُضاءة داخل المباني .
في القمرية الحديثة تغير أسلوب التكنيك الصناعي للقمرية فبعد أن كانت تُقطع من مقاطع رخامية وفق مقاسات معينة لتوضع في المبنى التقليدي الذي لا يتجاوز الدورين ، أضحت العملية في القمرية الحديثة أكثر سهولة ويُسْر إذ كان يأخذ الحرفيون (اليهود ) والمسلمون مقاس وشكل النافذة بالفرجار على الحائط ، ثم يرسمون حدودها على طاولة مستوية، ثم يصبُّون عليها الجص السائل حتى يمتلئ الشكل المرسوم على الطاولة، بحيث يكون السُمْكُ من أربعة إلى خمسة سنتمترات عن مستوى السطح، بعدما يبدأ الجص بالتيبس يقوم العمال اليهود والمسلمون برسم زخارف هندسية عليه بواسطة الفرجار ، ومن ثمَّ ينحتونه ويحفرونه بأدوات وسكاكين حديدية خِصّْيصة . وتكون النحوت عميقةً قدر سمك هذا اللوح من القص، ومتى ما أصبح الرسم منحوتاً بالكامل ، يقوم العامل بسد الثقوب بقطع من الزجاج المختلف الألوان مقطوعة خصيصاً بالماس أو بأحجار قاسية أخرى، يتبع الرسم الأولي وتوزيع قطع الزجاج لهذا (الهيكل ) الجصي بذوق أو انعدام ذوق عند الفنان المهني ، يُلصق جصٌ طريٌ قطع الزجاج على اللوح المنحوت ، بعد هذه الخطوة تغمر التشكيلات بالجص الطري حتى ينشف، بعدها يقوم الحرفي ـ بمهارة ـ بإزالة الجص الذي لُصق بالزجاج ، بعد اكتمال هذا العمل يوضع العامل الفني النافذة في محلها داخل الحائط وتثبت بالجص أيضاً .
لقد تفنن اليمنيون في المعمار المنزلي منذ قديم الزمن ، وكان همهم الجانب الجمالي في هذا البناء، لذلك فكر العمَّارون اليمنيون في تطوير القمرية التقليدية بشي من خصائص القمرية السابقة فأنجبوا القمرية الحديثة التي هي سائدة اليوم بفلسفتها الزخرفية ، ولم تكن قد توقفت عند ذلك الشكل البدائي الذي ظهرت عليه بل تطورت عبر السنين والأحقاب وفقاً لمعطيات العصور التي مرَّت بها حتى صارت فناً من فنون التشكيل الهندسي والمعماري ، وتفنن البناءون في رسم تشكيلاتها وتعبيراتها ودلالات تلك التشكيلات في إظهار الحضارة اليمنية وتجليات معطياتها القائمة على الزراعة ، ويرجح البناءون في صنعاء أن (العقود) القمريات الحديثة الزجاجية ، المشكَّلة من مادة القص والزجاج الملون ظهرت مع التطور الهندسي المعماري الحديث ، منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادي ، ويذكر الرحال
الإيطالي رنزو مانزوي ـ في زيارته لصنعاء عام 1877ـ 1878م وهو يصف الديوان الصنعاني ـ أن ثمَّة نوافذ أخرى تسمى (القمرية) وهي محكمة الإغلاق بزجاج ملون ، وهيكلها مصنوع من الجص . لكن بشكل زخرفي محدود في قصور الحكام وتجار صنعاء،إذ كانت النوافذ صغيرة ومنخفضة ، ولا تعلو عن الأرض أكثر من 45سم؛ لديها مصراعان فيهما نوافذ صغيرة أخرى . فوق هذه النوافذ هناك أخرى مستديرة ومربَّعة ، مغلقة بإحكام بألواح من الألبستر الأبيض الَّامع ، أو بزخارف محفورة في الجِص تكون ثقوبها مغلقة بالزجاج الملوَّن . هذه النوافذ الملوَّنة يصنعها اليهود ، وجاء استخدامها من أهم الحلول الوظيفية بتأمين الإضاءة ، وتعدد أشكال القمريات ، فهي إما دائرية أو نصف دائرية أو مستطيلة ، وقد أزاحت هذه القمرية أبوة القمرية المصنوعة من المرمر مع دخول القرن العشرين ، عندما ظهرت القمريات القصية المفردة والمزدوجة والمزينة بزخارف قصية ومكسيَّة بألوان الزجاج ، خاصة في الطوابق العلوية ، مما أدى إلى اختفاء القمرية التقليدية المصنوعة من المرمر تدريجياً مع مرور الوقت ، ولم يشكل ما تطمئن إليه المرجعية التوثيقية إلا في بداية القرن العشرين ، وظل محدوداً في العقد الأول والثاني والثالث من القرن نفسه ، إلا أنه توسع وانتشر نسبياً في العقدين الرابع والخامس ، وبلغ ذروته في الانتشار داخل صنعاء القديمة في العقد السادس ، واستمر هذا التطور والتفنن في الأشكال والألوان والزخارف والمدلولات حتى يومنا هذا . وكان لهذا التحول المعماري الكبير استجابة من قبل الطراز الصنعاني ، إذ كانت البدايات الأولى خجولة في بداياتها التحوُّلية هذه ، وسرعان ما تحولت إلى سمة بارزة من سمات المعمار اليمني عامة والصنعاني بخاصة ، وهذا التحول الذي أحدثه الفنيون المعماريون اليمنيون بعد رحيل اليهود من اليمن إلى فلسطين أيام الإمام يحيى حميدالدين عام 1948م أحدث نقلة نوعية في بِنْية القمرية وفلسفتها ، إلا أن ثمَّة معتقداً لدى الأجيال الجديدة كاد أن يسود بين الأجيال المتلاحقة يشي بأن القمرية (العقد) الحديثة القصِّية المزيّنة ببلور الزجاج المعشق الملون هي الأصل لإحلالها محل القمرية الرخامية الأصلية التي بات وجودها نادراً في المباني القديمة التي لم تطلها يد التحديث ، وقد مرَّت القمريات الحديثة بعدة تحولات من حيث تقنية التركيب أو الشكل بما في ذلك نوعية المواد ، ففي المرحلة الأولى كان الزجاج الملون هو مادة التعشيق لفراغات التشكيل القصي، ولصعوبة تقطيع وتشكيل الزجاج وفن أبعاد وأشكال المفردات والوحدات الزخرفية عمد الفنان الحرفي إلى استخدام مفردات ووحدات زخرفية ذات فراغات كبيرة ، كان التشكيل والقطع يتم يدوياً .
وفي المرحلة التالية تطور هذا النوع من القمريات ، ففي بداية النصف الثاني من القرن العشرين دخل البلور البلاستيكي كمادة تعشيق إلى جانب بلور الزجاج الملون ، وذلك لمرونة وسهولة تقطيعه وتشكيلة وفق الفراغات مهما صغرت مساحات وأبعاد قياساتها إلى درجة أن الحرفي تفنن في إدخال أشكال ذات أبعاد حضارية وفلسفية ، مثل استخدام الحرف العربي لكلمة أو لعبارة مثل : ” بسم الله الرحمن الرحيم ، أو لفظ الجلالة أو ما شاء الله” أو تشكيل مجرد مثل : ” الطيور ، والحيوانات الجميلة ” .
ومن سمات تشكيل القمرية القصية المعشقة بالبلور التناظر في توزيع مفرداتها ووحداتها الزخرفية ، وقد استخدم المعمار القمرية القصية في ملء الفراغات المخصصة لها بطريقتين تعتمد على أهمية الفضاء الوظيفي :
ـ القمرية المفردة : وهي الأكثر حيث يغطي الفراغ بلوح واحد ، وتنتشر هذه القمرية في معظم المدن والقرى اليمنية .
ـ القمرية المزدوجة : وتتزين بها الفضاءات ذات الوظيفة المهمة : المعيشية أو الهادئة وقد كثر استخدامها في المباني السكنية الكبيرة ، إذ يتم في هذا النوع تركيب لوحين مزخرفين لوح داخلي ولوح خارجي اللوح الداخلي هو المعشق بالزجاج الملون وهو الأكثر أهمية بالتفنن والتشكيل ، وقد يسمى الداخلي لأنه يكون داخل تجويف العقد جهة المجلس أو الحجرة أو أي مساحة فراغية في المنزل , وهو الذي تزهو ألوانه داخل الفراغ عند سقوط أشعة الشمس عليه , واللوح الخارجي هو الذي يكون في تجويف العقد من الخارج ويكون خالي من الألوان فقط تغُطى فراغاته بالزجاج الأبيض , وقد عُمِل ليكون واقٍ للعقد الداخلي من عوامل التعرية ، ويُطلق اسم العقد على القمرية المصنوعة من القص على شكل نصف دائرة تُخرم بأشكال منتظمة ومتناسبة ويُغطى التخريم بالزجاج الملون أو الشفاف ويوضع في الأقواس التي تعلو النوافذ والفتحات التي تعلو الأبواب ، ويشكل عقد القص مع الزجاج باقةً تتعدد ألوانها وتختلف أشكالها ، ويُركب بقوس النافذة ـ أحيانا ـ عقدان داخلي (من الجهة الداخلية للغرفة ويكون زجاجه ملوناً )، وخارجي (من الجهة الخارجية للجدار ويكون زجاجه شفافاً أبيض) ، وأحياناً يُركب من الجانب الخارجي عقدٌ بدون زجاج أبيض يسمى تخاريم ، وهذان العقدان لا يكونان لازمين من لوازم العمارة سوى في مدينة صنعاء القديمة ، ومباني أهل صنعاء وإن كانت حديثة البناء أما مناطق اليمن الأخرى فإن العقد يكون واحداً فقط ، وهو العقد الداخلي في صنعاء الذي يكون زجاجه ملوناً ، والغرض الحقيقي من هذه العقود هو مرور أشعة الشمس خلالها لتعطي إشعاعات ملونة جميلة تضفي بهجةً لنفس الناظر إليها أو الساكن بداخل هذه البيوت ، وهذا ينم عن تذوقٍ للجمال وإحساس مرهف لدى الانسان اليمني ، وقد كان العقد رمزاً لصنعاء وحضارتها عند اختيارها عاصمةً للثقافة العربية 2004م وكان اختياراً مدروساً وهادفاً من قبل القائمين عليها آن ذاك.
ومن أهم أسباب اعتماد المعمار القمرية القصية المعشقة بالبلور هو التوجه نحو زيادة مساحة النوافذ والقمريات في الطوابق العليا , لصعوبة استخدام القمرية الرخامية في المساحات الكبيرة , بالإضافة إلى الجانب الجمالي المعاصر في استخدام القمرية القصية وسهولة تشكيل الأبعاد الحضارية اليمنية فيها .
الفلسفة الزخرفية في القمرية
حين تقدم المهني المعماري اليمني ـ خاصة مَنْ أخذ قسطاً من التعليم ـ تفنن في زخرفة وتشكيل القمرية إذ لم تعد القمرية (العقد) في نظره ونظر الفرد اليمني المدني مساحة بلورية لإدخال الضوء إلى المساحات الفراغية من المنزل ، بل أضحت عملاً فنياً فلسفياً تزين به مجالس وأبنية العمارة اليمنية ، وتضفي على هذه المجالس تلابيب البهجة والانشراح ، فما لبثت أن تحولت القمرية على يد الفنيين اليمنيين من اليهود والمسلمين إلى مادة جمالية تزيَّن بها واجهات المباني ، وتضفي على مجالس ودواوين البيت اليمني عامة ومدينة صنعاء خاصة رونقهاً من البهجة والجمال بألوانها المتعددة التي تحمل دلالات ومعاني فلسفية نابعة من الموروث الحضاري لليمن الذي لم ينفك عن الجانب الزراعي الذي كان أحد معطيات حضارة اليمن القديم (والمتمثل بدولة معين وسبأ وحمير ، والدويلات التي عاصرتها في مناطق مختلفة) والحديث الذي جاء امتداداً لتلك الحضارة الضاربة أطنابها في عمق التاريخ البشري الإنساني ، فعكست فلسفة الأديان السماوية التي ترمز لها كل ديانة برمز ديني يناغي تلك الديانة مثل نجمة داوود التي ترمز للديانة اليهودية ، والهلال الذي
يرمز للديانة الإسلامية ، وهذا يعني أن الديانتين قد تعايشتا في اليمن جنباً إلى جنب منذ فجر الإسلام وحتى اليوم ، عكستها الأعمال الفنية والإبداعية لشغل القمريات ، ولهذا يمكننا القول أن العمارة اليمنية مرتبطة بالنظرية المعمارية التي ترتبط بالحواس والعواطف والفكر وغيرها ، مما يتعلق بالجوانب الفيسلوجية والسيكولوجية للإنسان ، باعتبارها العوامل التي تؤثر بالعمل المعماري والفلسفة المعمارية للعمارة اليمنية من الناحية التخطيطية والتصميمية والتشكيلية ، وارتبطت بالمؤثرات الدينية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والبيئية،ولهذا فإن القيمة الجمالية للعمارة اليمنية نابعة من البيئة المحلية التي تميزت بالتركيز على الداخل والخارج فإن ما يظهر على الواجهات الخارجية يعتبر تعبيراً صادقاً عما خَلْفه من عناصر
اتصال أو معيشة أو خدمات ، لذلك فقد عمد فنانو الزخرفة التشكيلية العاملون بزخرفة القمريات إلى ترك بصماتهم الحضارية على هذه القمريات منطلقين من فلسفة الماضي الحضاري لثقافتهم المكانية ،التي تُعد من أساسيات التكوين الفني للعمارة اليمنية، وتشكل العقود مع بقية مكونات الواجهات الرئيسة للمبنى لوحة زُخرفية تبهج نفس الناظر إليه ويمثل العقد منفرداً فسيفساء يتفنن العمال بزخرفته وتحميله أبعادا حضارية تعكس ثقافة المهني ، فالعقود التي توضع في أماكن مختلفة من الفضاءات البنائية تستعمل في أكثر البيوت اليمنية ، وهي ألواحٌ من الرخام الشفاف في المباني القديمة ، أما المباني الحديثة فقد استبدلت الرخام بالعقود القصِّية التي مثلت نقلة نوعية في الفن المعماري اليمني الحديث ، وتعد النوافذ الواسعة الهدف الرئيسي للزخرفة في بيوت صنعاء ، فلا يمكن لأحد أن يتصور المدينة دون أن يفهم هذه النوافذ إنها تتكون من جزأين : الجزء الأسفل وهو النافذة المفتوحة للخارج ، تُفتح وتغلق بواسطة عدة مصاريع خشبية ، والجزء العلوي وهو العقد المكون من الزجاج الملوَّن الثابت الذي لا يفتح .
ومن اسلوب صناعته ونوعه يعرف الإنسان تاريخ البناء ، وتتغير أنماط النوافذ والقمريات بحسب ما تمليه الظروف البيئية والوظيفية ، حيث تتنوع فتحات النوافذ والقمريات وتتغير أحجامها ومقاساتها ومساحاتها ، حيث وأن عامل تكوينها ـ كخاصية معمارية ـ يعتمد على وظيفتها إذ تُتخذ الوظائف وفقاً للغرض الهندسي لفن العمارة اليمني ، ففي الطوابق السفلية تكون فتحات النوافذ صغيرة لغرض التهوية ،أما في الأدوار العلوية فتتكوِّن النافذة من جزأين الجزء العلوي يكون ـ من حيث النسبة والمقاس ـ أكبر من الجزء السفلي ، إذا كانت الطاقة مربعة يكون العقد مقوساً ، وإذا كانت الطاقة مستطيلة يكون العقد مستطيلاً مع تقويس العقد من أعلى ، ولهذا فإن دوره من حيث الإضاءة أكبر بحكم استخدام مادة شفافة من مادة القص المزخرف والمعشق بالزجاج الملون وقد عرف اليمنيون كيف يصنعون هذه العقود الزجاجية ، وكيف يتفادون تراكم الغبار والرمال عليها ورسموا عليها زخارف عديدة بالزجاج الملون الذي يعكس أشعة الشمس بألوانه الزاهية
دلالة الشكل الزخرفي في القمرية
لم تأتِ الأشكال الزخرفية في القمرية اليمنية اعتباطاً بل جاءت مترجمة للفلسفة الواقعية للحضارة اليمنية ،التي قامت على معطيين أساسيين هما الدين والزراعة ، ومن ثمَّ كان لا بد للفنان المعماري الذي تسلح بمعرفة المواسم والنجوم الزراعية من ترسيخ ذلكما المعطيين وأن يعكسهما في أعماله اليومية حين اشتغال الزخرفة القصية للعقود طبقاً لأنماطها في العمارة اليمنية التي تتميز أكثر في المناطق الجبلية،على الرغم من وجودها في العمارة اليمنية بشكل عام ، وتَميُّز القمرية قد جاء من خلال استخدامها وتكوينها وحجمها في تغطية الفتحة العلوية للنافذة ، وتختلف تشكيلاتها وزخرفتها وألوانها بحسب تغير وظيفتها التي تأتي تلبية للشروط البيئية
إذ يكمن جمال البيوت الخارجي في النوافذ ، فالنوافذ أيضاً تتجلى بالأناقة والبهاء في الداخل. فهي لا تعلو عن قاع الحجرة إلا بنحو 30سم ، وهذا مناسب بحيث يتمكن الجالسون على الفراش والمساند من النظر إلى الخارج . وبين النافذة والعقد يوجد ـ دائماً ـ رفٌ يضعون فيه كل شي من طنافس جمالية ومجسمات وتحف لأشكال مختلفة ، وهو مجوَّف إلى عمق العقد ليتيح فرصة وضع التحف والهدايا وغيرها ، والعقود الزجاجية ترتفع إلى السُّقف ، وهي تتألف من قطع زجاجية متعددة الألوان يفصل بينها شريط من الجص الأبيض ، وتنفذ من العقود الزجاجية أنوارٌ ملونة بهيجة وتنعكس على الجدران البيضاء ، مما يضفي على نفس الرائي لها بهجة ومسرَّة ، وقد اشتهر الحرفيون اليهود اليمنيين في أعمال المشغولات القصية ، ومنها عمل القمريات (العقود) وزخرفة الجدران ، وقد أدخلوا في معظم أعمالهم الزخرفية رسوم وأشكال منها نجمة داوود كعلامة مميزة ارتبطت بوجود اليهود في اليمن ، وما تزال هذه المآثر اليهودية موجودة في العمارة اليمنية حتى اليوم .
فالزائر لصنعاء سيجد نجمة داوود في أغلب البيوت الصنعانية خاصة البيوت القديمة التي لم تمسها يد التحديث ، وهذا يدل على أن من كان يعمل في هذه المهنة هم اليهود اليمنيين حينما كنوا يسكنون في اليمن ، وفي مقابل نجمة داوود في القمرية كان هناك الهلال الذي يرمز للديانة الإسلامية ولم يرسمه الفنيون اليمنيون المسلمون فقط بل كان اليهود يرسمونه في بعض القمريات ، لأنهم بحاجة إلى التنوع الزخرفي للقمرية وفي نفس الوقت ليدللوا على تعايش الديانتين في بلاد السعيدة .ولم تقتصر أعمال العقود على اليهود بحسب بل كان المسلمون يشاركونهم هذه المهنة ، وتفننوا في عملها وزخرفتها وتطورها عبر العصور اللاحقة خاصة بعد أن هاجر معظم اليهود اليمنيين إلى فلسطين عام 1948م ، فقد تولى اليمنيون المسلمون عمل القمريات التي آلت إليهم من قديم الزمن عبر الأجيال فأدخلوا عليها الزخارف المعبرة المختلفة مستندين على المعطيات الحضارية اليمنية عبر الحقب التاريخية ومواكبين كل جديد في إطار فلسفة الزخرفة لمهنة القمريات كما سيأتي لا حقاً .
الدلالة الثانية : في عمل القمريات هي رسم أوراق شجرة البن وثمارها الحمراء اللون والتي اشتهرت بها اليمن من قديم الزمان ، وكان مينا المخا هو المشهور بتصدير هذه السلعة المهمة إلى أنحاء العالم ، وقد اشتهرت أهم المقاهي في العالم من خلال هذه الثمرة التي أخذت هذه المقاهي شهرتها من اسم البن المصدر من المخاء فسمية باسم (موكا كافي) ، ولأهمية هذه الشجرة في اليمن وفي كافة أنحاء العالم فقد تغنى بها
شعراء اليمن ومن أشهرهم الباحث والشاعر مطهر على الارياني إذ يقول :
يا حارس البن بشراك موسم البن داني
طاب الجنى يا حقول البن ياحلى المغاني
يا سندس أخضر مطرز بالعقيق اليماني
يا سحر ماله مثيل في الكون قاصي وداني
ماحلى العقود القواني في الغصون الدواني
بن اليمن يا درر يا كنز فوق الشجر
من يزرعك ما افتقر ولا ابتلى بالهوانِ .
وقد تناغم الفنان المعماري اليمني مع الشاعر فجسد هذا في صناعة القمرية فرسم أغصان هذه الشجرة بما تحمله من ثمار وهي باللون الأحمر ، وهذا تذكير بما لهذه الشجرة من مكانة في الحضارة اليمنية وفي خلد اليمنيين ، بالإضافة إلى شهرتها العالمية ، وعلى نفس المسار الزخرفي الذي يتكئ على الجانب الزراعي فقد رسم الفني المعماري ضمن أبعاده الزخرفية اشكال للورود المختلفة وكذلك أوراق بعض الشجر الزراعية المثمرة مثل رسم أوراق شجرة الموز التي تشتهر اليمن في زراعتها وثمارها وكذلك بعض ثمر المانجو وغيرها من المحاصيل الزراعية المختلفة استناداً إلى إمالة وتذكير اليمنيين بأنهم أصحاب حضارة زراعية
الدلالة الثالثة : تتمثل برسم الطير الجمهوري الذي كان وما يزال رمزاً لقيام الجمهورية وتحرر اليمن من الحكم الفردي ، فقد عبَّر الفني المعماري الذي يقوم بعمل القمرية عن سعادته بقيام الجمهورية فرسم شعارها وهو الصقر الفارد لجناحيه ، فالبعد الدلالي لهذا الرسم يوحي للمشاهد للقمرية بمدى سعادة الشعب بقيام الثورة والنظام الجمهوري ، وكذلك شعور الزائر لصنعاء أو اليمن عامة من خارجها بزهو اليمنيين بالثورة .
الدلالة الثالثة : وهي تأخذ منحى آخر إذ لم تقف عند الفلسفة الطبيعية للأشياء بل تجاوزت القمرية ذلك إلى الوصول إلى شعارات ذات دلالة رمزية فأخذت تنحو منحى آخر إذ صارت شعارات لليمن في أكثر من مؤسسة ثقافية ومناسبة قومية ، ففي عام 2004م حين كانت صنعاء عاصمة للثقافة العربية حرص القائمون عليها آن ذاك أن تكون القمرية هي شعارها وصمموا القمرية (الشعار) بأبعاد إنسانية فرسموا كلمة صنعاء بشكل حمامة ، وفيه أيضاً القلم الذي يرمز للتعليم للثقافة للمعرفة وغيرها .
وكذلك شعار نادي القصة اليمني إل مقه ، فقد حرصنا في نادي القصة أن يكون شعارنا هو الشراع ، ودلالة الشراع تعني المضي قُدما للوصول إلى مرافئ الحلم الذي ترسمه لنفسك ، لكنه مرسوم بشكل الزخرفة القمرية ، لحرصنا على الاحتفاظ بالخصوصية اليمنية في هذا الشعار ، مضاف إليه اسم (إل مقة ) باللغة الحِمْرية والعربية