في كل مكان نلتفت إليه نجد من يقدّم النصيحة، ومن يعبّر عن رأيه، وآخر يحلل المواقف، ويوجّه الناس وكأنه مرجع في الحياة، كل هذا على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تظهر العشرات، بل المئات من «العشوائيين» الذين يتحدثون في كل شيء: من الدين إلى العلاقات، ومن الصحة النفسية إلى القرارات الاقتصادية، إلى العلوم والفلك حتى إلى ما وراء الطبيعة، طبعاً دون خلفية علمية، أو تجربة ناضجة، أو حتى إدراك حقيقي لما يقولون.
العشوائي ليس مجرد شخص يشارك رأياً، بل هو حالة من الجرأة الممزوجة بجهل عميق، يقفز بها على التخصصات والخبرات، ثم يقدّم نفسه على أنه «واعٍ»، بينما هو في الحقيقة ضائع، ويريد أن يضيّع غيره، المشكلة لا تكمن فقط في وجود هؤلاء، بل في أن بعضهم أصبح مؤثّراً ومتبوعاً، رغم أنه لا يعرف وجهته، ولا يملك ما يؤهله للتأثير أصلاً.
الخطر في العشوائيين أنهم لا يدركون حجم الضرر الذي يسببونه، لأنهم يخلطون بين التجربة الشخصية والحقيقة العلمية، بين الرأي والمعلومة، بين الحماسة والمعرفة، تجد أحدهم يتحدث عن التربية، بينما هو لم يربِّ أحدا، ينتقد الزواج وهو لم يجربه، ويعطيك دروساً في النجاح وهو لم ينجح يوماً، ومع ذلك، يتحدث وكأن كلامه منزلٌ من السماء، لا يقبل النقاش ولا الرد.
هؤلاء الأشخاص يعيشون حالة من التناقض العميق، فهم في داخلهم مرتبكون، وفي ظاهرهم يدّعون النضج والحكمة، يغذّون تصورات مشوشة، ويقدمونها على أنها وعي متقدّم، لكن الواقع أن كثيراً من الشباب والبسطاء يتأثرون بهم، فيعيدون نشر أفكارهم، ويقتبسون جُملهم، ويظنون أنهم أمام «قدوة ملهمة»، بينما هم في الحقيقة أمام شخص لا يزال يبحث عن ذاته، ويصدّر حيرته على شكل نصائح.
لقد أصبح العشوائيون اليوم جزءاً من الضجيج الفكري الذي يخنق الفهم الحقيقي، هم لا يصنعون محتوى، بل يصنعون بلبلة، لا يقدمون حلولًا، بل يضيفون مزيداً من الحيرة، المجتمع لا يحتاج إلى المزيد من الأصوات المرتفعة، بل إلى عقول هادئة تعرف متى تتكلم، ومتى تصمت، ومتى تفسح المجال لأهل التخصص والكفاءة.
الوعي الحقيقي لا يُقاس بالصوت المرتفع ولا بعدد المشاهدات، بل بعمق الرسالة وصِدق التجربة، وما أكثر الذين يتحدثون اليوم، وما أقل من يُحسن القول، ويُدرك أثر كلماته، لذلك، علينا أن نتساءل قبل أن نتابع أو نُصغي من هذا الشخص؟ ماذا أنجز؟ هل فعلاً يستحق أن نستمع له؟
في زمن ازدحمت فيه المنصات، أصبحت مسؤوليتنا أن «نفلتر» ما نقرأ، ونحمي وعينا من التلوث المعرفي، فليس كل من تكلم يُسمع، وليس كل من ظهر يُتّبع، المنصات مفتوحة للجميع، لكن العقل لا يجب أن يكون مفتوحاً لكل شيء.
متابعات