خلال الأشهر الستة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، غادرت حوالي 300 شركة عالمية السوق الروسية، بينما أوقفت 700 شركة أخرى تنفي` استثمارات ومشاريع جديدة بها، حسب بحث نشرته كلية ييل للإدارة، الأحد.
وتهيمن شركات من الولايات المتحدة وأوروبا على القائمة الطويلة لتلك الشركات، وتشمل، على سبيل المثال، بنكي سيتي وغولدمان ساكس، وعلامات تجارية للملابس مثل أديداس وبيربري، وعمالقة التكنولوجيا آي بي إم، وإنتل، وتويتر، وغيرها.
وأدى نزوح الشركات على نطاق واسع، إلى جانب العقوبات الغربية القاسية، إلى “تدمير الاقتصاد الروسي” بعد عقود من الاستثمار الأجنبي وعلاقات التعاون، وذلك رغم استمرار تدفق النفط الروسي، وإصرار الكرملين على أن روسيا تسير على ما يرام.
ولكن تقرير “ييل” يكشف أن جميع الشركات الأجنبية لم تنسحب بعد من البلاد، إذ لا تزال حوالي 47 من أكبر مئتي شركة في العالم تعمل في روسيا، أو معها.
ويقول الخبراء إن الشركات التي بقيت الآن معرضة بشكل متزايد لخطر “التأميم”، في وقت تكافح روسيا للوصول إلى أفضل طريقة لمواجهة هجرة الشركات الجماعية، وتسعى إلى سيطرة أكبر على اقتصادها.
ودفعت الضغوط السياسية، وتلك المتعلقة بالحفاظ على السمعة، العديد من الشركات إلى الخروج من روسيا على عجل، عقب غزو أوكرانيا في فبراير الماضي.
بيد أن الانفصال التام عن موسكو بدا أمرا مكلفا ومعقدا، إذ استمرت العديد من الشركات، التي أعلنت في السابق عن نيتها المغادرة، في القيام بأعمال تجارية هناك، بينما تقيم كيفية الخروج، دون خسارة الكثير من المال.
وبات بنك سوسييته جنرال الفرنسي بمثابة مثال بارز، بعدما حصل على مبلغ 3.2 مليار دولار من بيع حصصه والشركات التابعة له إلى الملياردير الروسي فلاديمير بوتانين (الذي فرضت عليه عقوبات لاحقا).
وباع البنك أصوله الروسية على عجل، ولكن لرجل أعمال مرتبط بالحكومة، باعتبار أن المشترين الأجانب قليلون، بالنظر إلى المخاطر التي تنطوي عليها تلك الصفقات الآن.
وحسب ما قال أحد كبار التنفيذيين المصرفيين لصحيفة فاينانشيال تايمز: “نحاول جميعًا إيجاد طريقة ذكية للخروج من البلاد. لكن ما فعله سوسيتيه جنرال لم يكن أفضل طريقة للقيام بذلك. هناك جوانب أخلاقية يجب مراعاتها عند البيع، وإلا “سيكون الأمر بمثابة التبرع بشكل أساسي إلى الأوليغارشية “.
لكن شركات أخرى، بما في ذلك العديد من الشركات اليابانية والصينية، لا تزال جميعها في السوق الروسية. وقد واصلت اليابان، الفقيرة بالموارد الطبيعية، التي دانت حرب بوتين على أوكرانيا ، شراكات النفط والغاز مع موسكو، وقال رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في وقت سابق من هذا العام: “سياستنا هي عدم الانسحاب (من روسيا)”.
كما لا تزال شركات السكك الحديدية والاتصالات الصينية، المملوكة للدولة، إلى جانب شركات التكنولوجيا الخاصة والصناعات الثقيلة، تعمل كالمعتاد في روسيا، رغم أنها لا تزال حذرة بشأن فرض عقوبات ثانوية من قبل الغرب.
ومن بين الشركات الأميركية التي بقيت: ماتش غروب مالكة تيندر، و مطور ألعاب الفيديو ريوت غيمز، وماركة الملابس الفاخرة توم فورد، وشركات أخرى.
لكن تحركات الكرملين الأخيرة قد تغير هذه الحسابات، فهي تشير إلى أن الحكومة الروسية مستعدة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد الشركات لتشديد السيطرة على الاقتصاد.
ضربة قوية
وإذا كان القرار صعبا بالنسبة للشركات للبقاء في روسيا أو المغادرة ، فقد يصبح الأمر أسهل كثيرًا، إذا قرر فلاديمير بوتين ذلك.
ففي الأول من يوليو، وقع الرئيس الروسي مرسومًا يسمح للحكومة بالاستيلاء على مشروع سخالين 2 للنفط والغاز الطبيعي.
وأعطى الكرملين أمرا بالسيطرة على سخالين -2 لشركة جديدة أنشأتها الدولة، يمكنها أن تجرد المستثمرين الأجانب من حقوقهم، إذا أرادت ذلك.
وكانت تلك واحدة من أشد الخطوات التي اتخذتها الحكومة رداً على هجرة الشركات.
وتمتلك شركة شل البريطانية العملاقة للطاقة، وشركتا التجارة اليابانيتان ميتسوي وميتسوبيشي حصصًا معتبرة في مشروع الطاقة الروسي.
وهذا الشهر، تلقى المستثمران اليابانيان ضربة تزيد قيمتها عن مليار دولار بالنسبة إلى أصولهما في سخالين -2 بعد صدور التقييم على إثر مرسوم بوتين.
وعبرت ميتسوي وميتسوبيشي عن رغبتهما في البقاء بالمشروع، لكنهما غير متأكدين من مستقبلهما.
ويوضح المرسوم أن روسيا ليست مستعدة فقط لمصادرة الأصول الأجنبية، لكنها أيضًا تستعد للانخراط في “ابتزاز المصادرة”، كما كتب مارك ديكسون، مؤسس وكالة التصنيف الأخلاقي، وهي منظمة بحثية تركز على الشركات الأجنبية في روسيا.
وتُظهر قضية سخالين 2 أن مستثمرين أجانب قد تمت مصادرتهم بالفعل، وأن السلطات الروسية تمنحهم الفرصة إما للموافقة على الشروط الجديدة للكيان الجديد الذي يسيطر الآن على مشروع الطاقة – أو خسارة كل شيء، كما قال ديكسون لصحيفة فورتين هذا الأسبوع .
وسبق أن كتب ديكسون في وقت سابق من هذا العام: “نتوقع حدوث تسونامي من عمليات المصادرة أو الامتيازات الابتزازية خلال الشهرين المقبلين”.
ويتفق خبراء آخرون على أن الحكومة الروسية ستلجأ إلى التأميم، وهو ما يرقى إلى مصادرة الملكية، أو المصادرة من قبل الدولة لـ”شركة أجنبية واحدة تلو الأخرى” بسبب نقص الخيارات المتاحة.
ويقول الخبير الاقتصادي، أندرس أوسلوند: “لا يمكن بيع الأصول الروسية بسهولة بسبب ندرة المشترين الأجانب، بالإضافة إلى أنه بالنسبة لتلك الشركات التي خرجت، لا يمكن تركها من دون مالكين”.
ونفت روسيا أنها ستصادر، أو تؤمم، أصول الشركات الأجنبية.
وقال وزير التجارة والصناعة دينيس مانتوروف مؤخرًا: “لسنا مهتمين بتأميم الشركات أو إزالتها”.
وقد تم وقف مشروع قانون، من شأنه أن يسمح للحكومة بتأميم أصول الشركات الدولية التي خرجت من روسيا بشكل رسمي، إذ لم يتم تمرير مشروع القانون في البرلمان الروسي قبل العطلة الصيفية.
لكن الخبراء يقولون إن الشركات الغربية لا تزال تتعرض لضغوط كبيرة لتنفيذ انفصال واضح مع روسيا، أو الخضوع لأهواء الكرملين.
يقول أوسلوند إن الخطر الكبير المتمثل في مصادرة الملكية ما زال قائماً، رغم أن التأميم قد يتأخر، وذلك ببساطة لأن الكرملين ليس لديه بديل واضح.
ويضيف: “غادر العديد من المستثمرين الأجانب الآن، والخيار الطبيعي الوحيد للحكومة الروسية هو إما الاستيلاء على (الشركات)، أو السماح لرجال الأعمال الروس المقربين من الكرملين بالاستيلاء عليها، مقابل القليل أو لا شيء”.
ولا ينتقص التوقف المؤقت لمشروع قانون التأميم من الاتجاه طويل الأمد للاقتصاد الروسي، الذي يتجه نحو سيطرة أكبر للدولة وزيادة تدخلات الكرملين لإخفاء التحديات الهيكلية الناشئة عن عزل روسيا عن الأسواق الدولية باعتبارها دولة منبوذة، بحسب ستيفن تيان، مدير الأبحاث في معهد للقيادة بجامعة ييل.
ويعزو تيان التوقف عن التشريع، إلى “الاقتتال الداخلي” بين المسؤولين الحكوميين، فالبعض، مثل الأوليغارشي إيغور سيتشين، الذي يدير عملاقة النفط الروسي روسنفت يدافع بقوة عن سياسات روسية قومية، بينما يتجه البعض الآخر نحو إجراءات السوق الحرة.
ويوضح تيان: “لكن من الواضح أن الفصيل الأخير ليس المنتصر حاليا، حتى لو بدا فائزا ببعض المناوشات العرضية”.
وحسب وكالة التصنيف الأخلاقي، فإن ما يقرب من 47 من أكبر 200 شركة عالمية تعمل في روسيا حاليا، معرضة بشدة لمصادرة ممتلكاتها أو تأميمها، بسبب حجم استثماراتها في البلاد، أو حصصها الحالية في الأعمال التجارية الروسية.
ويشكل المستثمرون الأوروبيون واليابانيون والصينيون في مشروعات الطاقة الروسية جزءًا كبيرًا من القائمة، حيث تبرز مثلا حصة BP البالغة 19.75% في شركة النفط الحكومية الروسية روسنفت، بقيمة 11.2 مليار دولار، وكذلك استثمارات توتال إنرجي البالغة 13.7 مليار دولار.
وأدرجت في القائمة أيضًا شركات سلع استهلاكية غربية، بما في ذلك شركة الأغذية والمشروبات نستله، التي تستمد 2% من إيراداتها من روسيا، وشركة يونيليفر التي تمثل روسيا أيضا ما يقرب من 2% من إجمالي مبيعاتها.
وفي ورقة بحثية حديثة يرى أستاذ الإدارة جيفري سونينفيل أن إجراءات بوتين مؤخرًا تسلط الضوء على استياء الكرملين بعدما أصبحت روسيا “دولة غير قابلة للاستثمار”.
ويقول سونينفيل: “لا يوجد دافع للبقاء”، ستفقد الشركات “السيطرة التشغيلية، والتحكم في التوظيف، والتحكم في العلامة التجارية، و(حتى) السيطرة على سمعتها”.
متابعات