أصبحت ظاهرة صمت الأحزاب السياسية اليمنية إزاء ما يدور في البلاد من حرب وعبث دول أجنبية من الظواهر المقلقة للشعب اليمني الذي يعاني من فراغ في القيادة، وهو الفراغ الذي استغلته المليشيات الممولة خارجيا بمختلف توجهاتها، وازداد الخطر الذي يهدد الوضع أو الشكل القانوني للدولة اليمنية ونظامها السياسي بعد مصالحة السعودية مع كلٍّ من إيران ومليشيا الحوثيين، ومساعي الرياض لإنجاز تسوية سياسية في اليمن لا تركز على جوهر الأزمة وإنما تفخخ البلاد بمشاريع فوضى دائمة، لأن تلك التسوية إذا نجحت ولو مؤقتا بتوافق مختلف الأطراف عليها فإنها ستضعف الدولة اليمنية وتهدد وضعها القانوني، وستقر وضعا شاذا أفرزته الحرب يتمثل في تعدد الكانتونات والمليشيات والتشكيلات العسكرية غير النظامية وارتباطاتها الخارجية.
وبالرغم من أن ما يحصل في اليمن منذ أكثر من ثماني سنوات من حرب وتدخل أجنبي وتنامي دور المليشيات سيؤثر على مصير البلاد لعقود كثيرة مقبلة، إلا أن الأحزاب السياسية اليمنية ما زالت تلتزم الصمت إزاء عبث التحالف السعودي الإماراتي في البلاد، وإن تحدثت فإن حديثها لا يتعدى الإشادة بدور التحالف في اليمن، والتعاطي مع ذلك الدور إما بحسن نية أو بغباء مصطنع خشية ما قد يترتب على الاعتراض عليه من متاعب لا تقوى بعض الأحزاب الهشة على تحملها.
مع أن الواجب يقتضي من الأحزاب أن تكون كتلة واحدة ومواقفها موحدة ومذيلة باسمها جميعا في بيانات مشتركة، لأن الأحزاب هي المستهدفة بعد الدولة بملشنة البلاد وشيطنة الجيش الرسمي وتفكيكه وإضعافه وملشنة السياسة وأيضا عسكرة الدين من خلال استقطاب السعودية والإمارات للجماعات السلفية وتنظيمها في مليشيات وتشكيلات عسكرية غير نظامية، وغير ذلك من مظاهر قتل السياسة واغتيال دستور البلاد وتهميش القوانين ومخالفة الأعراف والقوانين الدولية التي تجرم الانقلابات العسكرية وتجرم تشكيل المليشيات والجماعات المسلحة خارج إطار الدولة، وتجرم أيضا التدخل العسكري الأجنبي التخريبي في بلد مستقل ذي سيادة وعضو في الأمم المتحدة.
– عن أهمية دور الأحزاب
تعد الأحزاب السياسية العمود الرئيسي للنظام السياسي اليمني الجمهوري القائم على التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة، كما أن الأحزاب تعد الركن الأساسي في النظم الديمقراطية، ويقع على عاتقها مهام وطنية عظيمة، فبالإضافة إلى كونها قنوات للمواطنين للمشاركة السياسية والتعبير عن حاجاتهم ومطالبهم، فإن دورها يشمل التحديث السياسي والرفع من نوعية التطور الديمقراطي وتنشيط فاعلية النظام السياسي بفضل الضغط الذي تمارسه على صناع السياسة وعلى الحكومة لترشيد أدائها وممارسة الرقابة عليها للحد من الفساد المالي والإداري.
وإذا كانت الأحزاب في حال السلم تدير مسألة تداول السلطة بالأدوات الديمقراطية، فإن أي خطر داخلي أو خارجي يهدد الدولة ونظامها السياسي فإنه يهدد أيضا النظام الحزبي بكامله، وهذا يضع الأحزاب أمام مسؤولية تاريخية وواجب وطني لحشد الطاقات وتعبئة الجهود الشعبية والرسمية للدفاع عن الدولة وعن نظامها السياسي، وعلى الأحزاب أن تتكتل جميعا لتكون الصوت المعبر عن الشعب وعن الدولة إزاء الدور الأجنبي في البلاد والتأثير على سياساته، وعليها أيضا تحريك قواعدها الشعبية وحشد كل طاقاتها ووسائل إعلامها للتعبير عن رفض أي مؤامرات تحاك ضد الجمهورية اليمنية أو تهدد النظام السياسي للبلاد وتهدد مصيرها ومستقبلها.
وإذا فضلت الأحزاب الصمت، فإن ذلك سيترك فراغا كبيرة لتملأه المليشيات والتشكيلات العسكرية غير النظامية، التي ستكون معبرة ومنفذة لسياسات ومطامع داعميها الأجانب، غير مبالية بمصير البلاد ونظامها السياسي، كونها مليشيات بدائية تنتمي لزمن ما قبل الدولة ولا تعترف بالدولة أساسا، وبالتالي فإن صمت الأحزاب السياسية في مثل هكذا أزمة تشهدها اليمن فإنه يصل إلى مرتبة الخيانة الوطنية، لأن الصمت بمنزلة تواطؤ مع المشاريع المعادية للبلاد، وتفريط بتضحيات عظيمة ومتراكمة لأحرار اليمن الأوائل عبر عقود مضت ضد الاحتلال الأجنبي وضد المشاريع الظلامية والعنصرية الاستبدادية التي كانت مهيمنة وتحكم مساحات واسعة من البلاد.
– ما خطورة المليشيات؟
عندما تغيب الأحزاب السياسية عن الفعل السياسي وتهمل محيطها الثقافي والمجال الاجتماعي، فإن ذلك يترك فراغا كبيرا ستستغله المليشيات والتشكيلات العسكرية غير النظامية المدعومة من أطراف خارجية، وسيؤثر ذلك على توجهات الرأي العام، لأن غياب الأحزاب عن الفعل السياسي يمثل خدمة كبيرة ومجانية تقدمها الأحزاب للمليشيات، مما سيسهم في ملشنة السياسة، وبالتالي ستتحول المليشيات إلى “قوة سياسية غاشمة”، لها قادتها ووسائل إعلامها وحواضنها الاجتماعية بدافع الغريزة العنصرية، كونها تتخذ من العنصرية محفزا لحشد المقاتلين، مستغلة غياب الأحزاب وغياب دورها التوعوي والتعبوي، وغياب الأطر القانونية والشروط الدقيقة والحازمة للعمل السياسي والعسكري.
كما أن استمرار صمت الأحزاب في مرحلة مفصلية من تاريخ البلاد سيخل بتوازن المشهد السياسي لمصلحة مليشيات بدائية عنصرية ومتطرفة، رغم أن فرص قدرة المليشيات على التأثير ستكون ضئيلة أو منعدمة لو أن الأحزاب السياسية ظلت فاعلة وحارسة على قيم الدولة والجمهورية منذ بداية الحرب وإلى الآن، ولن يكون بقدرة الفاعلين الأجانب العبث في البلاد لو أن الأحزاب لم تترك أي فراغ في المجال السياسي والاجتماعي.
وبالتالي فكلما واصلت الأحزاب صمتها وفضلت الانتظار في المقاعد الخلفية للسياسة فإن دور المليشيات سيظل يتزايد حتى يصبح عرَضا مزمنا، وسيقوض ذلك النظام الجمهوري الديمقراطي لمصلحة حكام الطوائف والمليشيات العنصرية، وستفقد الأحزاب حينذاك القدرة على التواصل مع الجماهير، لأنه في ظل حكم المليشيات سينشأ جيل جديد لا يعرف الأحزاب السياسية، كما أن الجيل الذي سبق له معرفة الأحزاب سيرى أنها خذلته وتخلت عن دورها في مرحلة عصيبة وحساسة من تاريخ البلاد، وبالتالي فهي ليست محل ثقة ولا تستحق المساندة.
وإذا افترضنا أن التسوية السياسية التي تسعى لها السعودية ستشمل الأحزاب والمليشيات، فإن ذلك يعني تقديم الأحزاب لقمة سائغة لتلك المليشيات، جراء عدم التكافؤ بين أحزاب مدنية ومليشيات لا تعرف سوى لغة السلاح، ولا تقبل بمعيار الأخلاق في المشاركة السياسية، فهي لا ترى المواطن صوتا انتخابيا، وإنما تراه مجرد مقاتل في صفها أو عدوا مفترضا يجب قتله أو اختطافه وسجنه وتعذيبه حتى الموت أو الإصابة بعاهات دائمة، ذلك أن الصفة الرئيسية للمليشيات ومعيار تصنيفها كمليشيات هو عداؤها للتعددية أيا كانت، وهي بذلك، أي المليشيات، تشكل تهديدا وجوديا للقيم الحضارية والإنسانية، واستمرار وجودها يشكل أرضية خصبة لتنامي الإرهاب وتفشي ظاهرة القتل والعنف والنهب وجعل حياة المواطنين في خطر دائم.
وفي أسوأ الأحوال، إذا حظيت المليشيات بتمثيل ضئيل في البرلمان ومُنِحَت حق المشاركة السياسية، فإن ذلك يشكل خطرا على العملية السياسية، فبعض الأحزاب أو بعض الشخصيات السياسية ستتحالف مع المليشيات تحت وطأة الكيد السياسي أو الابتزاز، وهناك دول تحتفي بالمليشيات وستظل تدعمها حتى يقوى عودها، وهذا يهدد الحياة السياسية أو سيؤدي إلى ملشنة الأحزاب وعسكرة الحياة السياسية، وفي أحسن الأحوال ستتحول المليشيات إلى أقليات معطلة في البرلمان، ما يعني أنه لا يمكن تحقيق استقرار وتنمية في ظل وجود مليشيات، حتى وإن كانت مجرد أقليات، فكيف إذا كانت تمتلك السلاح ومدعومة من أطراف خارجية مقابل ضعف الدولة والأحزاب.
إن الشرط الرئيسي للاستقرار هو إنهاء الوضع المليشياوي في البلاد ودمج جميع التشكيلات العسكرية غير النظامية تحت قيادة وزارة الدفاع، ومن دون ذلك فإن أي عملية سلام في ظل تعدد المليشيات والتشكيلات العسكرية غير النظامية ليست سوى شرعنة للفوضى والحروب المتناسلة، لأن المليشيات مجرد مشاريع فوضى دائمة، ولم يسبق أن استقر وضع بلد ما في العالم وهو في وضع مليشياوي وتتعدد فيه التشكيلات العسكرية غير النظامية وتتباين في مشاريعها وارتباطاتها الخارجية.
– ما واجب الأحزاب؟
تتعدد واجبات الأحزاب السياسية اليمنية في هذه المرحلة بتعدد المخاطر المحدقة بالبلاد، وفي مقدمتها مساعي التحالف السعودي الإماراتي لإقرار الوضع المليشياوي الشاذ في البلاد تحت لافتة التسوية السياسية، والهدف من تلك التسوية تفخيخ البلاد بمشاريع فوضى دائمة وحروب متناسلة واضطرابات مزمنة، مما يهدد الوضع القانوني للدولة اليمنية، ويزيد من مأساة المواطنين وتردي أوضاعهم المعيشية، فليس منطقيا ألا يسمح حكام الرياض وأبو ظبي لأي مواطن بحمل السلاح في بلديهما، بينما في اليمن أضعفوا الجيش الرسمي للدولة وشكلوا المليشيات وفي الأخير يسعون لتسليم البلاد للمليشيات التي دعموها، وكانت طريقة تشكيلهم لها وتسليحها مخالفة للدستور اليمني وتمثل تعديا على السيادة اليمنية.
كما على الأحزاب اليمنية أن تتحرك نحو التواصل مع المواطنين وحشد الطاقات والجهود للالتفاف حول القضية اليمنية وتعرية المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد البلاد، والتوسع في دعم المجتمع المدني ومنحه دورا كبيرا في دعم القضية اليمنية وإعادة التعريف بها، ودعم قيم التماسك الاجتماعي، ووحدة البلاد، والتعايش، والشراكة، والتعددية السياسية والحزبية، وقبول الآخر، ورفض ملشنة البلاد وتجريف الدولة والدستور والسيادة الوطنية، ومحاصرة المليشيات بمختلف توجهاتها من خلال كشف خطورتها وتعريتها، وتوجيه الدعوة لمن التحقوا بها بتركها.
أيضا يجب على الأحزاب اليمنية تكريس جهودها للحفاظ على الهوية اليمنية، وإقامة برامج تأهيل للمغادرين صفوف المليشيات، والعمل على طرح خطاب إعلامي يحمل هم القضية اليمنية بشكل مكثف وبسيط وواضح، ينبع من قيم الجمهورية والديمقراطية والدستور والمواطنة ووحدة النسيج الاجتماعي، وحشد الجهود والطاقات ضد مشاريع مشلنة البلاد وتفكيكها وتفتيتها، وتبني هموم المواطنين، والضغط على الحكومة لإجراء إصلاحات عاجلة، واستغلال الموارد المتاحة في إدارة المعركة لاستعادة الدولة، مع عدم إهمال الخدمات العامة وتحسين المستوى المعيشي للفئات الأكثر فقرا ومعاناة.
باختصار، على الأحزاب ألا تقف موقف المتفرج رغم إدراكها لخطورة ما يجري وما تحاك من مؤامرات أجنبية ضد اليمن بشكل عام، وهذا يقتضي أن تلتحم الأحزاب والمجتمع المدني مع مكونات السلطة الشرعية بشكلها الحالي لتحمل أعباء استعادة الدولة، وإثارة الرأي العام ضد المليشيات بمختلف توجهاتها، وإثارته أيضا ضد مشاريع تفتيت البلاد والمخاطر التي تهدد الوضع القانوني للدولة، وعدم التعاطي مع دعوات السلام على ظاهرها، فالشرط الأول والحقيقي لتحقيق السلام هو إنهاء الوضع المليشياوي الشاذ ودمج مختلف التشكيلات العسكرية غير النظامية تحت قيادة وزارة الدفاع، وما عدا ذلك فإن كل دعوات تحقيق السلام في ظل الوضع الحالي ليست سوى مؤامرات تهدف لإنتاج جولات جديدة من الفوضى والحروب الأهلية العبثية.
متابعات