العمل ترافق مع الإنسان منذ فجر تاريخه. بدون المهام اليومية في العمل، لم يكن لهذا الإنسان أن يتطور، وأن يتقدم، ولا أن يجد المأوى والطعام. وفي عصر اليوم، بقي العمل هو الجانب المولد والمنتج للمال، الذي بواسطته نجد المأوى والطعام، ونحقق التطلعات والطموحات. العمل هو الركيزة الأساسية في حياة كل إنسان، بل هذا هو السياق الطبيعي في الحياة البشرية. لذا، نجد أن سوق العمل، والبحث عن الوظائف، سوق متنامية وسريعة الحركة، هناك من يدرس ويتعلم، وهناك من يواصل تدريبه، وهناك من يزيد مهاراته، وهناك من يدخل ورش بحث عن تقنيات جديدة، والغاية تحقيق السبق في هذه السوق التي لا تتوقف عن النمو ولا عن التحديث.
في هذا العصر تحديداً، نشاهد ملامح هزة، أو تغير غير مسبوق في مفهوم العمل وواقع جديد، يؤدي إلى اختفاء الوظائف المعتادة، ومعها الملايين من الناس سيكونون خارج سوق العمل. توجد دراسة صادرة عن معهد ماكينزي العالمي «McKinsey Global Institute» نشرت في فبراير/شباط 2021 جاء فيها «أن ما يقرب من 45% من الأنشطة الحالية التي يؤديها البشر يمكن أن تتم أتمتتها بالتقنيات المتاحة اليوم». ووفقاً للدراسة نفسها «فإن الوظائف الروتينية والمعتمدة على أنماط متكررة ستكون الأكثر عرضة للاختفاء».
وقد يفاجأ البعض أن هذه الحالة قد توقعها العلماء منذ وقت مبكر جداً، حيث نجد العالم البريطاني الشهير في علم الاقتصاد، جون ماينارد كينز، قد تنبأ في مقالة كتبها عام 1930 بعنوان: «الآفاق الاقتصادية لأحفادنا» بأن التقدم التكنولوجي سيؤدي إلى تقليص ساعات العمل تدريجياً، وربما يصل بالإنسان إلى العمل بضع ساعات أسبوعياً فقط. وقد قال كينز حينها: «إن مشكلتنا الحقيقية في المستقبل لن تكون نقص العمل، بل كيفية استخدام أوقات فراغنا بحكمة»، إن حالات إلغاء الوظائف باتت سائدة ومتعارفاً عليها، حيث تمكّنت تقنيات الذكاء الاصطناعي من أن تحل مكانها بشكل تدريجي وبمهارة ودقة أكبر من اليد العاملة للإنسان. وعلى الجانب الآخر أيضاً، هناك وظائف كثيرة، قلصت ساعات عملها للحد الأدنى، فيما مضي كانت تحتاج لساعات طويلة لإتمامها، اليوم يتم إنجازها في بضع دقائق، ودون الحاجة للتواجد في مقر العمل.
نعم، هناك تغييرات قوية في سوق العمل، وطبيعته، وآلياته، والمستقبل القريب سيحمل المزيد من التغييرات المؤذية لبعض الناس، ولا سبيل إلا بالاستعداد، ووضع البدائل، والوعي وتعليم أبنائنا وفق متطلبات المستقبل واحتياجاته.