ذرة النفس البشرية.. حيث يبدأ كل شيء

بقلم/أسماء الجناحي

عجباً! كيف يغفل الإنسان عن قانون الحياة البسيط والعادل: “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ”؟ كيف يظن أنه يستطيع أن يزرع الشر ويحصد الخير، أو ينشر الحسد وينال الطمأنينة؟ الكون كله قائم على التوازن، حيث تُقاس الأفعال بموازين دقيقة، فلا يضيع جهد مخلص، ولا يغيب عن الحساب فعل مشين، ولو كان بحجم الذرة.

بيئة العمل تشبه الحقل الزراعي، حيث تتحدد جودة الحصاد بناءً على ما يُزرع في التربة. الموظف الذي يحرص على أداء واجبه بإخلاص، حتى لو كان في مهمة بسيطة، يسهم في بناء مؤسسة قوية، كما أن القائد الذي يسقي موظفيه بالتقدير والاحترام يحصد بيئة مهنية زاخرة بالإنتاجية والإبداع. على النقيض، فإن التخاذل، وانعدام النزاهة، ونشر ثقافة الصراعات، كلها بذور تؤدي إلى بيئة سامة، تقتل الحماس وتعرقل التقدم. كل كلمة طيبة، كل مساعدة بسيطة، كل مبادرة إيجابية، ولو بمثقال ذرة، تعود على الفرد والمكان الذي يعمل فيه بنتائج عظيمة، حتى وإن لم يدرك ذلك في البداية.
لكن هناك آفة خفية تتسلل إلى هذه التربة، فتُفسد ما يُزرع فيها، وهي آفة الغيرة والحسد. حين يرى شخص نجاح زميله، أو تقدُّم شخص آخر في بيئة العمل، قد يدفعه الحسد إلى معاداته بدلاً من دعمه. هذه المشاعر السلبية لا تؤذي المستهدف فحسب، بل تعود على الحاسد نفسه، حيث تُثقل روحه وتستهلك طاقته في مراقبة الآخرين بدلاً من تطوير ذاته. وكما أن الفلاح الذي يلوث تربته بالسموم لن يحصد شيئاً سوى الخراب، فإن الحاسد، مهما حاول، لن يجني سوى المرارة والتراجع. في المقابل، من يفرح لنجاح غيره، ويدعم زملاءه، يخلق بيئة عمل صحية ومثمرة، يكون فيها النجاح مشتركاً، تماماً كما تنمو الأشجار جنباً إلى جنب في الحقل، دون أن تمنع إحداها الأخرى من امتصاص نور الشمس.

لكن تأثير بيئة العمل لا يتوقف عند حدودها، بل يمتد إلى المجتمع الأوسع، كما تمتد جذور الأشجار في التربة، فالموظف الذي يستشعر الامتنان لوظيفته ويحترم أقرانه ويسهم في بناء بيئة عمل إيجابية، سينقل هذه القيم إلى أسرته وأصدقائه، وإيجابيته ستؤثر في محيطه. أما الموظف الحاسد، الذي يكره نجاحات زملائه ويشغل وقته بالتذمر بدلاً من تطوير ذاته والتركيز على عمله بإخلاص، فتراه في حالة من الفوضى، منشغلاً بالمقارنات التي لا تزيده إلا إحباطاً. وفي نهاية المطاف، ينعكس هذا السلوك عليه، فيجد نفسه محاطاً بالمشكلات التي هو سببها الأول. وهنا تستحضرني الآية الكريمة: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ»، إذ إن الإنسان هو صانع واقعه، وهو من يرسم طريق نجاحه أو عثراته بما يغرسه في قلبه من مشاعر وما يبذله من أفعال.

فما يحدث في كل مجتمع ليس إلا انعكاساً لقانون المدخلات والمخرجات. وكلما غرسنا في نفوسنا ونفوس من حولنا قيم الاجتهاد والالتزام، والنزاهة والإخلاص والتعاون، فإننا نرسم ملامح مستقبل أفضل. وحين نتهاون، أو نسمح للسلبيات بالتسلل، فإننا نُغرق أنفسنا في حلقة من التراجع والتآكل.
الآيات الكريمة تذكرنا أن كل جهد نبذله، وكل مشاعر نحملها، سواء كانت خيراً أو شراً، ستعود إلينا بشكل أو بآخر. الموظف الذي يساعد زميلاً، القائد الذي يوجّه فريقه بعدل، الفرد الذي يزرع الخير في محيطه، كلهم يصنع الفرق، حتى وإن لم يلحظوا أثره المباشر. لكن في المقابل، من ينشغل بالحسد، ويعمل على إعاقة غيره، ويأبى أن يساعد كي لا تضاف نقاط أداء إضافية لزميل عمله، فإنه كمن يحفر حفرة لنفسه، لأن الحياة تردّ لكل شخص عمله، ولو بمثقال ذرة.
في نهاية المطاف، كل واحد منا فلاح في أرض الحياة، وما نزرعه اليوم هو ما سنحصده غداً. فليكن ما نزرعه خيراً، ولو بمثقال ذرة، لأن القانون الإلهي لا يخطئ، وما يُغرس بالخير يعود أضعافاً مضاعفة، وما يُزرع بالسوء يرتد على صاحبه في حينه. «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ».

متابعات

إقرأ ايضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اخترنا لك
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى