يسرا محسن: لا أرقص من أجل الإعجاب بل لتحرير نفسي

يسرا محسن ليست مجرد راقصة أو عارضة أزياء، بل حالة فنية متكاملة، تكتب قصّتها بجسدها، وتُعبّر عن جوهرها من خلال كل خطوة، كل نظرة، وكل إطلالة. يسرا ليست فنانة تسعى لإبهار الآخرين، بل امرأة اختارت أن تعيش بصدق، أن ترقص لأجل كل فتاة عربية حلمت بالخروج من القوالب المفروضة، وأن تجعل من الفن وسيلتها للتحرّر، التحدّي، والتغيير.

  • مديرة ابداعية: Jade Chilton

  • تصوير: Fouad Tadros

  • مكياج: Michel Kiwarkis لدى MMG Artists

  • شعر: Ivan Kuz

  • أظافر: Dial A Nail

  • موقع التصوير: Villa Aumedan

– كيف كانت جلسة التصوير اليوم مع Louis Vuitton؟

كانت جلسة التصوير اليوم مع مجلة «لها» ودار Louis Vuitton تجربة لا تُنسى. من اللحظة التي وصلت فيها إلى موقع التصوير، كنت مُحاطة بفريق رائع من المحترفين الموهوبين الذين أضفوا طاقة وإبداعاً وشغفاً على كل تفصيلة. التنسيق كان مثالياً، وأحببتُ كثيراً كيف اندمجت تسريحة الشعر والمكياج معاً ليُعبّرا عن شخصيتي الحقيقية. كانت هناك كيمياء مدهشة بيني وبين المصوّر؛ كأننا نتواصل من دون كلمات، وهذه العلاقة انعكست بشكل جميل أمام العدسة.

وما جعل الأجواء أكثر تميّزاً هو تشغيل موسيقاي المفضّلة طوال الوقت، مما ساعدني على الاسترخاء، والاستمتاع، والتعبير عن الحالة التي كنا نسعى لتجسيدها. لم تكن مجرد جلسة تصوير، بل لحظة شعرت فيها بالحرّية للتعبير عن شخصيتي، وأنا فخورة جداً بالقصّة التي سردناها من خلال هذه الصور.

البدايات والشغف بالفن

– متى بدأت علاقتك بالرقص؟ هل تذكرين اللحظة التي شعرتِ فيها أن هذا هو طريقك؟

بدأت علاقتي بالرقص، وبالفنون عموماً، في سنّ مبكرة جداً، حتى إنّ والدتي دائماً ما تروي بشغف كيف كنت أرقص بالحفاض قبل أن أتمكن حتى من المشي جيداً. كانت الحركة دائماً لغتي، حتى قبل أن أتعلّم النطق.

ورغم أنني لم أبدأ التدرّب رسمياً على الرقص قبل سنّ التاسعة، إلا أن ذلك لم يكن لانعدام الشغف. كنت أيضاً مولعة بركوب الخيل، وخصوصاً القفز الاستعراضي، وكان هذا العالم يثير اهتمامي بشدة في طفولتي.

لفترة طويلة، عشتُ في صخب جميل بين عالمين: الرقص وركوب الخيل. لكن مع ازدياد الضغط الدراسي، وصلتُ إلى مرحلة لم أعُد أستطيع فيها التوفيق بين الاثنين لا جسدياً ولا ذهنياً.

وللأسف، النظام التعليمي في لبنان، ومجتمعات كثيرة في العالم العربي، يولي أهمية كبيرة للمسارات التقليدية، ويترك مجالاً ضيّقاً للفنون أو الرياضات. آمل بصدق أن يتغير هذا في المستقبل.

أتذكّر تماماً اللحظة التي تغيّر فيها كل شيء داخلياً، اللحظة التي شعرت فيها بعمق أن هذا هو قدري. كنت في جولة مع فرقة «كركلا» في الصين، نؤدي عرض «ألف ليلة وليلة». وعندما وقفت على المسرح في ختام العرض الأخير، وأنا أنحني لتحية الجمهور، انتابني شعور عارم. قلبي أدرك شيئاً لم يدركه عقلي بعد: هذا ما أريد أن أفعله لبقية حياتي. أريد أن أعيش من خلال فني، أن أروي القصص بجسدي، وأن أصنع من شغفي حياةً، مهما كلّف الأمر.

– هل تلقيتِ الدعم من عائلتك عندما قررتِ احتراف الرقص؟

للأسف، حتى يومنا هذا، ورغم أن ثقافتنا العربية جميلة وتضجّ حيويّةً، إلا أنها في كثير من الأحيان لا تزال محافِظة، لا يُحتفى غالباً بالمسارات الخارجة عن الإطار التقليدي من دون مقاومة. هناك رغبة متجذّرة في مجتمعاتنا في الحفاظ على النظام، المألوف، والآمن، لضمان أن كل شخص يندرج ضمن «قالب» واضح.

لذلك، عندما اخترتُ أن أكرّس حياتي للرقص وأتّبعه كمهنة، لم يكن قراراً مرحّباً به من الجميع في البداية. لن أكون صادقة إذا قلت إنني تلقيت دعماً كاملاً من عائلتي منذ اليوم الأول.

لكنْ كان هناك نور واحد لا ينطفئ: والدتي.

كانت دائماً سندي، ومصدر إيماني، وتذكيري الدائم بأن الأحلام تستحق أن نلاحقها. علّمتني أن أتطلّع دائماً إلى الأعلى، وأنه حتى إن لم أصل الى القمر، فسأهبط بين النجوم. إيمانها بي منحني القوة للاستمرار، حتى عندما لم يفهم العالم من حولي المسار الذي اخترته.

– كيف كانت تجربتك في أكاديميات الرقص في بيروت؟ وماذا أضافت إليك فنياً؟

نشأتُ في بيروت والتحقتُ بأكاديميات عدة للرقص، وكلٌ منها أضاف إليّ شيئاً ما على طول الطريق. لكن عندما أُفكّر في ما شكّلني فنياً حقاً، لا أرى أنّ المؤسّسات وحدها كانت السبب، بل روح المدينة نفسها.

بيروت، بتناقضاتها، فوضاها وجمالها، ألمها وشِعرها، كانت معلّمتي الأولى. ارتباطي الوثيق بلبنان، بتراثه الغني، وبشعبه الصامد، وثقافته النابضة، أثّر فيّ جداً كفنانة.

هذا الإحساس بالهوية، بجذوري، ووطني، والقصص التي تنسج كل زاوية من زوايا بيروت، هو ما يغذّي عملي باستمرار. أحمل هذه الروح معي في كل ما أفعله، سواء على المسرح أو في جلسات التصوير، أو حتى عندما أتحرك على وقع نبض قلبي. تمثيل ثقافتي وتكريم شعبي من خلال فني هما أساس رسالتي.

– إلى أي مدى وسّعت تجربة «كركلا» آفاقك الفنية؟

كما ذكرت سابقاً، كانت تجربتي مع فرقة «كركلا»، في لبنان وخارجه، راقصة شبه محترفة، من أكثر الفصول تأثيراً في حياتي. كنت مُراهِقة أشارك المسرح مع فنانين محترفين، وفتحت عينيّ على حجم هذا الفن وانضباطه. كانت تجربة قوية، متواضعة، وغنيّة جداً، وسأظل ممتنة لها طوال حياتي، على المسرح وخارجه.

ومع ذلك، وبكل صدق، تجربتي مع «كركلا» تحمل أيضاً شيئاً من المرارة. فعندما قررتُ في وقت لاحق أن أستكشف آفاقاً جديدة، وأن أبحث عن مسارات أوسع وأكثر خصوصيةً، لم أحصل على الدعم الذي كنت أحتاج إليه فعلاً في تلك المرحلة الحسّاسة. وهذا يبقى ندمي الوحيد في علاقتي مع «كركلا».

مع ذلك، أدركُ تماماً كم كانت تلك التجربة حيوية لنموّي، وسأظل أعتبرها من الركائز الأساسية التي شكّلت الفنانة التي أنا اليوم.

التحديات المجتمعية والثقافية

– ما أصعب تجربة مررتِ بها بصفتك راقصة في مجتمع محافِظ؟

لو كان التحدّي مجرد كوني امرأة ترقص، لربما بدا الأمر أسهل. اليوم، بات يُنظر إلى الرقص على أنه هواية للفتيات في الشرق الأوسط بنوع من القبول، طالما بقي في إطار الهواية فقط. لكنني اخترتُ طريقاً أقل تقليديةً بكثير. تجرّأت على أن أجعل من الرقص مهنتي، ووسيلة عيشي، وغاية حياتي. وهنا بدأ الكثيرون يجدون صعوبة في تقبّل الأمر.

في مجتمع يُقدّس الاستقرار والمسارات «المحترمة» تقليدياً، وجدتُ نفسي مضطرة مراراً لأن أشرح أن الرقص، كأي حِرفة أخرى، يتطلب انضباطاً كبيراً، وتفانياً، وتضحيات.

كنت أشرح بهدوء وصبر أن اختيار الحياة في عالم الفنون ليس فقط خياراً مشروعاً، بل يعكس نمطاً من الحياة مليئاً بالمعاني.

ثم هناك البُعد الأكثر حساسيةً: جسدي هو أداتي، هو وسيلتي في التعبير، في العمل، في الفن. لكن في ثقافة محافِظة، حيث يُنظر إلى الجسد الأنثوي أحياناً بعدسة ضيّقة ومشوّهة، وجدتُ نفسي مُجبرة على الدفاع عن ذلك أيضاً.

لم تكن تلك الحوارات سهلة دائماً، لكنني تعلّمت أن أقف بثبات متمسّكةً بحقي، وكل حاجز واجهته زاد من إصراري على متابعة هذا الطريق.

أنا لا أرقص لنفسي فقط، بل لكل فتاة تحلم بأن تتحرر من القالب الذي فُرض عليها أن تبقى فيه.

– كيف تعاملتِ مع الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في البدايات؟

عندما بدأت أعبّر عن نفسي بحرّية على وسائل التواصل الاجتماعي، وأشارك طاقتي الأنثوية بالكامل، شعرتُ وكأنني دخلت في عاصفة.

الهجوم كان سريعاً وكثيفاً. أصبحتُ هدفاً لانتقادات قاسية، من الغرباء على الإنترنت ومن أشخاص في حياتي أيضاً.

الكثير لم يفهموا ما أقوم به أو لماذا اخترتُ هذا الطريق، وبدلاً من محاولة الفهم، واجهوني بالكراهية والغضب والإسقاطات من مخاوفهم الخاصة.

وصلتْ الأمور إلى مرحلة لم أعُد أتحمّل فيها هذا الكم من السلبية، فاتّخذت قراراً واعياً: توقفت عن قراءة التعليقات والرسائل والآراء غير المطلوبة.

أغلقتُ الباب على الضجيج من حولي، وعُدت إلى داخلي.

ذكّرت نفسي لماذا بدأت، وما الهدف الذي أعمل من أجله، ومدى أهمية أن أعيش بصدق مع ذاتي.

اضطررتُ لحماية سلامي الداخلي، وصون الجذوة التي بداخلي،

لأن في نهاية المطاف، هذه حياتي، حياتي الوحيدة، وأرفض أن أجعلها رهينة خوف أو سوء فهم الآخرين.

تركيزي يبقى على فني، وأحلامي، وعلى مَن يراني كما أنا فعلاً.

– هل شعرتِ يوماً أنك مضطرة للدفاع عن نفسك أو اختياراتك المهنية أمام المجتمع؟

في بعض الأحيان، نعم، شعرتُ بالحاجة إلى شرح مساري وتوضيحه، من خلال مقابلات، بودكاست، أو حوارات لإتاحة الفرصة للناس لمعرفة القصد والنية وراء ما أفعله.

لكنْ للدفاع عن نفسي؟ لا.

لا أشعر أنني مضطرة لتبرير اختياراتي لأحد.

لا أدين لأحد بتفسير، سوى لنفسي.

أؤمن بأن مَن لديه قلب منفتح سيفهم، ومَن لا يفهم، ليس من المفترض أن يرافقني في هذه الرحلة من الأساس.

حقيقتي لا تحتاج إلى مَن يعترف بها.

أنا أمشي في طريقي بثقة ووعي، وهذا وحده كافٍ.

– كيف تغيّر إدراكك لذاتك كامرأة وفنانة منذ مغادرتك لبنان؟

في لبنان، نعيش غالباً داخل فُقّاعة، فقّاعة تبدو آمنة ومألوفة، لكنها بعيدة جداً عن الواقع المُعاش.

وعندما خرجت من تلك الفقّاعة ودخلت المجهول، تغيّر كل شيء.

بدأت من الصفر، بلا شبكة أمان، ولا أحد يفتح لي الأبواب، وهو أمر شائع للأسف في بلدنا.

كنت وحدي، مع طموحي، وحدسي.

وهنا أدركت: أنا الشخص الوحيد الذي يمكنني الاعتماد عليه حقاً.

تعلّمت أن أثق بحدسي، وأن أقف بثبات في لحظات الشك، وأن أواصل التقدّم حتى عندما بدا الطريق غامضاً.

من خلال هذه الرحلة، أصبحتُ امرأة قوية، حرّة، مستقلّة، لا تخشى أن تقول «لا»، ولا تعتذر عن حقيقتها، وتمتلك قوة داخلية عميقة.

كامرأة عربية وفنانة، هذا التحوّل كان كل شيء.

علّمني أن الحرية الحقيقية تبدأ عندما نتوقف عن طلب الإذن لنكون كما نحن.

– ما الفارق بين يسرى على المسرح ويسرى في حياتها اليومية؟

يسرى على المسرح جريئة، لا تخاف، وتعبّر عن نفسها بلا حدود.

عندما أكون في دائرة الضوء باسم «ليلى ليبرتي» (اسمي الفني)، أُجسّد هذا الاسم بالكامل.

أصبحُ قوة من الحرّية والحركة والتمرّد.

على المسرح، أتحدّى الحدود، وأكسر الصور النمطية، وأروي قصصاً تتجاوز الأصل والتربية. هناك أشعر أنني بلا قيود…

أما في حياتي اليومية فيسرى أكثر هدوءاً وتأمّلاً، لا تزال قوية ومتمكّنة، لكن بطريقة أكثر نعومةً وتأنّياً.

أعرف مَن أنا، وأعرف ما أريد، وأحمل النار نفسها بداخلي، لكن بلهيب أهدأ.

هناك ازدواجية جميلة بين النسختين مني، وتعلّمت أن أحبّهما على حد سواء.

الفن وتحرّر الذات

– ما الذي يُحرّرك أكثر أثناء الرقص: الموسيقى، الحركة، أم الجمهور؟

في الحقيقة، التحرّر يأتي من مزيج الثلاثة: الموسيقى، الحركة، والجمهور. عندما تجتمع هذه العناصر، يحدث نوع من السحر.

الأداء بالنسبة إليّ هو حالة استسلام تام للحظة، حضور بلا خجل، وتواصل عميق مع ذاتي.

وهذه الأصالة هي ما يصل إلى الناس فعلاً، ويجعل الطاقة حقيقية.

لكن إن اضطررت لاختيار عنصر واحد، فهو أنني أرقص ليس فقط لنفسي، بل لكل امرأة عربية حلمت يوماً أن تقف في مكاني.

أحمل آمال النساء، أصواتهنّ، وقوّتهن في كل خطوة وكل حركة.

هذه المسؤولية مقدّسة بالنسبة إليّ، وأحوّل هذا الفخر إلى طاقة في كل عرض. وهو ما يمنح فني المعنى، ووجودي القوة.

– كيف تغيّر إحساسك بأنوثتك منذ بدأتِ الرقص بالكعب العالي؟

الكعب العالي بالنسبة إليّ لم يعُد مجرد حذاء، بل أصبح امتداداً لجسدي، تماماً كما هو حذاء البوانت بالنسبة الى راقصة الباليه.

عندما أرقص بالكعب، أشعر بأنني أرتفع جسدياً وعاطفياً.

هناك قوة في هذا الارتفاع، في تلك الوقفة، في الطريقة التي يغيّر بها الكعب حركة الجسد.

منذ أن بدأت هذا النوع من الرقص، شعرت وكأنني اكتشفت ضوءاً جديداً بداخلي، ضوءاً كشف لي عن جوانب لم أحتضنها من قبل.

من خلال «رقص الكعب»، من خلال الأداء في أماكن مثل Crazy Horse، وعلى شاشات التلفزة، بدأت أتواصل مع أنوثتي بعمق أكبر… ليس وفق ما يُملى عليّ اجتماعياً، بل وفق رؤيتي أنا، أنوثة لا تعتذر، قوية، وحسّية.

علّمني «رقص الكعب» أن أحبّ جسدي، أن أتحرّك بنيّة، وأن أعيش بكامل كياني كامرأة.

لقد كان تحرّراً حقيقياً. لم أعُد أرقص فقط لأُبهر، بل لأستعيد، لأمتلك، ولأُشعّ بكل ما أنا عليه، بلا خجل.

– هل كانت هناك لحظة شعرتِ فيها أنك أصبحتِ «حرّة» حقاً؟

يصعُب تحديد لحظة واحدة، لأن التحرّر لم يكن حدثاً واحداً، بل سلسلة من اللحظات المفصلية التي شكّلتني.

أول مرة حصلت فيها على عمل احترافي في الرقص بباريس… لحظة حصولي على عضويّة Crazy Horse …

تصوير أول فيديو كليب لي مع ميكا بعد تجربة أداء أعطيت فيها قلبي كله… غلاف أول مجلة…

أول عقد عمل كعارضة أزياء…

كل لحظة من هذه اللحظات كانت بمثابة باب يُفتح.

ومع كل إنجاز، كنت أتخلّى عن المزيد من الخوف، والمزيد من الشك.

ومع كل خطوة، كنت أتحرّر.

التمثيل والتغيير في العالم العربي

– كيف ترين دورك في تغيير نظرة المجتمع للمرأة والفن في العالم العربي؟

من دون أن أبدو متفاخرة أو أُعطي نفسي أهمية مبالَغاً فيها، أؤمن بأن الطريق الذي اخترته، وتمسّكي به رغم كل العقبات، لعب دوراً في تغيير النظرة تجاه المرأة والفن في لبنان والعالم العربي. لم يكن الأمر سهلاً أبداً. اختيار هذا المسار والاستمرار فيه رغم الانتقادات تطلّبا قوة وصلابة. لكنني كنت أعلم منذ البداية أنني أتحدّى وأتخطّى الحدود. لم أفعل ذلك لنفسي فقط، بل لأجل شيء أكبر.

كامرأة عربية تقف على المسرح بفخر، وأول راقصة لبنانية تصل إلى إنجازات معينة، وتُدرّس الرقص بالكعب العالي علناً في لبنان، وحين كان الجميع تقريباً ضد هذا النوع من التعبير، كنت أزرع بذور التغيير. لم يكن هدفي أن أحطّم الأرقام القياسية أو أحصل على ألقاب. نيّتي كانت دائماً أن أعيش بصدق، وأن أُلهم الآخرين من خلال هذا الصدق.

إذا كانت رحلتي قادرة على أن تُضيء الطريق ولو لفتاة عربية واحدة موهوبة قيل لها إن حلمها غير ممكن، فإن كل التحدّيات كانت تستحق العناء. هذا ليس عني فقط، بل عن إعادة كتابة ما هو ممكن.

– هل شعرتِ بصراع داخلي بين ثقافتك الأصلية والحياة في باريس؟

لا شك في أن الثقافة الفرنسية تختلف تماماً عن الثقافة اللبنانية. أنا آتية من أرض الشمس والبحر والجبال، حيث يمكنكِ أن تعيشي كل ذلك في ساعة واحدة فقط. وُلدت ونشأت في بيروت، مدينة تتنفس الصمود وتشعّ بالجمال حتى في فوضاها. شكّلتني بحرارتها، بحدّتها، وارتباطها الوثيق بالحياة.

لذا، كان الانتقال إلى باريس والتأقلم مع إيقاع مختلف تماماً وطريقة حياة جديدة أمراً صعباً. السماء الرمادية، الشتاء الطويل، والمطر الذي لا ينتهي أحياناً… كلها كانت على النقيض من الضوء والألوان في وطني.

كنت أشعر بثِقل هذا الفارق، ليس فقط في الطقس، بل في الرموز الثقافية غير المعلَنة وفي المسافة العاطفية بين الناس. ومع ذلك، تمسّكت بحلمي.

كان حلمي هو مرساتي، بوصلتي، وطاقتي. كان يذكّرني لماذا غادرت، ولأجل ماذا، وفي أيّ طور سأصبح. حتى عندما أشعر أنني ممزقة بين عالمين، أعلم أنني أحمل الاثنين بداخلي، وهذه الازدواجية هي جزء من قوّتي.

– ما الرسالة التي تحاولين إيصالها من خلال عروضك الفنية؟

من خلال عروضي، أحاول إيصال رسالة بسيطة ولكنها قوية: لا يوجد حلم بعيد المنال. لا يهمّ من أين أتيتِ. جنسكِ، عرقكِ، دينكِ، أو جنسيتكِ لا ينبغي أن تحدّد إمكاناتك. يمكنكِ أن تكوني ما تريدين.

أريد للناس أن يشعروا، من خلال حركتي، أنهم أيضاً يستطيعون أن يحلموا بجرأة ومن دون اعتذار. لكن الأهم من ذلك، أن الأحلام تحتاج إلى عمل، إلى تعب، والتزام لا يتزعزع، وإيمان عميق.

عندما تلتزمين برؤيتك، بكل كيانكِ، يبدأ المستحيل بالتراجع. هذه هي الرسالة التي أحملها في كل خطوة، كل نَفَس، وكل عرض: أنتِ أيضاً تستطيعين.

الموضة والتعبير عن الذات

– ما الدور الذي تلعبه الموضة في حياتك اليومية وعلى خشبة المسرح؟

الموضة جزء أساسي ومتكامل من حياتي اليومية ومن حياتي الفنية على المسرح. هي ليست مجرد ما أرتديه، بل انعكاس لما أنا عليه، لما أشعر به، وللطريقة التي أختار أن أُعبّر فيها عن نفسي. سواء كنتُ ذاهبة إلى بروفة أو أقف تحت أضواء المسرح، الموضة حاضرة دائماً.

هي لا تشكّل مظهري فقط، بل تؤثّر في الطاقة التي أحملها إلى المكان.

على المسرح، تمتزج الموضة بالأداء، وغالباً ما تُصمّم الأزياء لتعكس أحدث الصيحات، أو بالتعاون مع أسماء مرموقة في عالم الموضة، مثل التعاون بين Christian Louboutin أو دار أزياء Alaia مع Crazy Horse باريس، وهذا مثال رائع على كيف يمكن الموضة وفن الأداء أن يخلقا شيئاً ساحراً.

في حياتي اليومية، أحب الموضة، خصوصاً الأناقة البسيطة. يعجبني مفهوم «الفخامة الهادئة»: قطع راقية، خالدة، وجميلة من دون جهد. حتى عندما أذهب إلى تدريب رقص يدوم ثماني ساعات بملابس رياضية، أحب أن أضيف لمسات صغيرة، مثل إكسسوار مميز أو طبقة مُنسَّقة من الملابس، شيء يجعلني أشعر بذاتي عندما أرى انعكاسي في المرآة. هذه طريقة لاحترام الذات، وهي تمنحني الثقة والفرح خلال يومي.

– كيف تختارين أزياء العروض؟ وهل تستمتعين بتصميم ملابسك الخاصة؟

في معظم الحالات، لا أملك حرية اختيار ما سأرتديه في عرض أو جلسة تصوير؛ ذلك يعتمد على الرؤية الفنية وفريق التنسيق، حسب طبيعة المشروع. هذا جزء من طبيعة العمل، وأنا أُقدّر العملية الإبداعية التي تأتي من التعاون.

لكنني صمّمت الأزياء لعرض خاص بي من الألف إلى الياء في دبي، وكانت واحدة من أكثر التجارب إرضاءً في حياتي. رؤية تصاميمي تتحوّل من رسومات إلى قطع حقيقية ترتديها المؤدّيات تحت الأضواء كانت أمراً مؤثّراً للغاية.

أيقظ ذلك شيئاً ما بداخلي. ورغم أنني لا أصمّم الملابس بانتظام، حتى الآن على الأقل، فقد أدركتُ كم أحب أن أكون جزءاً من الصورة الفنية الكاملة، حتى في أدق التفاصيل.

– إلى أي مدى تعكس ملابسك شخصيتك أو رسالتك الفنية؟

بصراحة، لا أفكر كثيراً في ما إذا كانت ملابسي تعكس شخصيتي أو رسالتي الفنية. أرتدي ما أشعر أنه يناسب اللحظة، ويجعلني مرتاحة وواثقة ومنسجمة مع نفسي في ذلك اليوم.

أحياناً يكون المظهر جريئاً، وأحياناً أخرى بسيطاً، أو مزيجاً من الاثنين. أعتقد أن ما أرتديه يعكس مزاجي أكثر من كونه رسالة.

ما يهمّني أكثر هو كيف أحمل نفسي، كيف أتحرّك، وكيف أتواصل مع الآخرين، سواء على المسرح أو في الحياة العادية.

الملابس يمكن أن تساهم في هذا، لكنها لا تُحدّده. في نهاية المطاف، ليس الزي هو مَن يروي قصّتي… بل أنا.

– هل ترين أن الموضة تُحرّر الجسد كما يفعل الرقص؟

لا يمكنني القول إن الموضة تُحرّرني كما يفعل الرقص. لا شيء يُضاهي الإحساس بالحرية عندما أتحرّك. الرقص هو اللغة الحقيقية لجسدي. لكن الموضة يمكن أن تدعم هذا التعبير. الزي المناسب يمكن أن يرفع من قيمة الأداء، يعزّز شعوراً، أو يُساعدني على الدخول في طاقة معينة.

لذا، رغم أن الموضة ليست وسيلتي الأساسية للتحرّر، إلا أنها بالتأكيد رفيقة له. إنها كالإطار حول اللوحة، ليست الفن ذاته، لكنها تُضفي عليه حضوراً ومعنى عندما تُختار بعناية.

– من هم مصمّمو الأزياء الذين يُلهمونك؟ وهل هناك مصمّمون عرب تتابعين أعمالهم؟

لطالما جذبتني الرؤية الجريئة والواثقة لـ Thierry Mugler، هناك شيء قوي في الطريقة التي تُبرز بها تصاميمه الجسم وتمنحه حضوراً.

وعلى الطرف الآخر، تعجبني كثيراً أناقة Saint Laurent الهادئة، الفخامة الصامتة، الخطوط الخالدة، والثقة غير المتكلّفة.

وطبعاً، لدي بعض القطع الأيقونية من Louis Vuitton التي أُحبّها وأعتز بها، كلاسيكيات لا تخرج من الموضة أبداً.

أما من المصمّمين العرب، فقد ألهمني كثيراً في الآونة الأخيرة جاد حبيقة. الحضور العصري والطاقة المتجدّدة التي يضخّها في العلامة التجارية رائعة فعلاً. من الجميل أن نرى الإبداع العربي يتطوّر بهذه الأناقة والتميّز. هذا يُشعرني بالفخر ويُذكّرني بكمّ الإبداع الذي ينبع من منطقتنا.

رؤية المستقبل

– ما هي أحلامك المستقبلية؟ هل تخطّطين للتوسّع أكثر في الإنتاج أم التعليم؟

أكبر أحلامي هو أن أستمر في سرد قصّتي، وأن أُلهم الآخرين من خلالها. أريد أن أرقص ما دام جسدي قادراً على الحركة. فهنا يتحدث صوت روحي بوضوح تام.

وفي الوقت نفسه، بدأت بالفعل في التوسع نحو الإنتاج والإخراج الحركي، وأنا أُحب فعلاً الحرية الإبداعية والقيادة التي تأتي مع هذا الدور.

أما التعليم فهو جانب مهم جداً في رحلتي. كلما يسمح لي الوقت، أُعطي دروساً في الرقص بالكعب العالي في لبنان، وأنا بالتأكيد أُريد أن أستمر في ذلك.

مشاركة ما تعلّمته، من مواقع التصوير، إلى المسارح، إلى استوديوهات التلفزيون، مع الجيل القادم من الراقصين في بلدي يعني لي الكثير.

إنه شكل من أشكال زراعة الأمل وردّ الجميل الى المجتمع الذي شكّلني.

وبعيداً من عالم الرقص والأداء، أشعر بنداء داخلي متزايد نحو العمل الإنساني. عالمنا يتألم، وفيه الكثير من الفوضى، الظلم، والمعاناة.

إذا استطعتُ أن أستخدم صوتي، أو منصّتي، أو طاقتي للمساعدة بأي شكل فسأفعل. هذا أيضاً جزء من رسالتي.

متابعات

إقرأ ايضا

اخترنا لك
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى