مع تصعيد الحوثيين المدعومين بأسلحة متطورة، هجماتهم على السفن الناقلة للشحنات العالمية في باب المندب، تثور تساؤلات عن مدى تأثير ذلك على الاقتصاد العالمي، وقناة السويس المصرية.
ومنذ 15 ديسمبر الجاري، لجأت 4 من أكبر خمس شركات شحن حاويات في العالم، وهي “ميرسك” و”أم أس سي” و”هاباغ ليود” و”سي أم أيه سي جي أم”، بإيقاف أو تعليق خدماتها في البحر الأحمر، وهو الطريق الذي يجب أن تمر عبره حركة المرور من قناة السويس.
وتمثل هذه الشركات الأربع مجتمعة 53 في المئة من تجارة الحاويات العالمية. وقد تحذو الشركات الأصغر لنقل الحاويات حذوها، بحسب مجلة “إيكونوميست”.
تأخير في سلاسل الإمداد
ويوضح الخبير الاقتصادي المصري، وائل النحاس، في حديثه مع موقع “الحرة” أن هذا يعني أن هذه الشركات اختارت طريق رأس الرجاء الصالح، بعيدا عن تهديدات الحوثيين، ما يزيد من رحلة السفينة 11 يوما تقريبا وهو ما سيؤدي إلى مزيد من تأخير سلاسل الإمداد”.
وباب المندب، الذي يبعد أكثر من الف ميل من غزة، هو مضيق ضيق بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وهو منفذ البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، و”يتدفق من خلاله عادة من 12 إلى 15 في المئة من حجم التجارة البحرية التي تمثل 85 في المئة من إجمالي التجارة العالمية”، بحسب النحاس.
باب المندب من أهم الممرات البحرية في العالم
والأحد، قال رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، في بيان، إن حركة الملاحة بقناة السويس منتظمة، وإن الهيئة تتابع عن كثب التوترات الجارية في البحر الأحمر وتدرس مدى تأثيرها على حركة الملاحة بالقناة في ظل إعلان بعض الخطوط الملاحية عن تحويل رحلاتها بشكل مؤقت إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
ويوما بعد يوم تصبح هذه المنطقة أكثر خطورة، حيث يستهدف الحوثيون في اليمن السفن في جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب في هجمات تقول الجماعة المتحالفة مع إيران إنها تستهدف دعم الفلسطينيين في غمرة الحرب بين إسرائيل وحماس.
وكانت البداية التي أظهرت حجم المخاطر، في 19 نوفمبر عندما استولى الحوثيون على سفينة شحن مرتبطة برجل أعمال إسرائيلي في جنوب البحر الأحمر، في تنفيذ لتهديد الجماعة بشن هجمات على السفن الإسرائيلية.
وفي الثالث من ديسمبر، قال الجيش الأميركي إن 3 سفن تجارية تعرضت لهجوم في المياه الدولية في جنوب البحر الأحمر، وأعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على “سفينتين إسرائيليتين” في المنطقة.
وفي التاسع من نفس الشهر، حذر الحوثيون من أنهم سيستهدفون جميع السفن المتجهة إلى إسرائيل بغض النظر عن جنسيتها، وحذروا جميع شركات الشحن العالمية من التعامل مع الموانئ الإسرائيلية.
بعد هذا التحذير، تصاعدت حدة الهجمات، إذ باتت تتم بشكل شبه يومي تقريبا.
وفي 12 ديسمبر، قال المتحدث باسم الحوثيين إن الجماعة استهدفت الناقلة التجارية النرويجية ستريندا. وقال مسؤول أميركي لرويترز إن الهجوم وقع على بعد نحو 111 كيلومترا شمالي مضيق باب المندب.
وفي 15 ديسمبر، هدد الحوثيون بمهاجمة إحدى السفن، وضربوا سفينة أخرى بطائرة من دون طيار وأطلقوا صاروخين باليستيين على السفينة بلاتينيوم 3، أصاب أحدهما السفينة.
وكان الهجوم على بلاتيتيوم، التابعة لشركة “أم أس سي” يمثل المرة الأولى التي يستخدم فيها الحوثيون صاروخا باليستيا مضادا للسفن.
وفي 16 ديسمبر، أسقطت سفينة تابعة للبحرية الأميركية، يو إس إس كارني، 14 طائرة من دون طيار فوق البحر الأحمر، بينما دمرت سفينة بريطانية، إتش إم إس دايموند، طائرة أخرى.
وتقول صحيفة “إيكونوميست” إنه “في مواجهة المخاطر المتزايدة المتمثلة في إصابة السفن بالشلل ومقتل أطقمها، تتحول صناعة الشحن العالمية إلى وضع الطوارئ”.
ويعد المضيق أحد أهم المسارات المائية في العالم لشحنات السلع العالمية المنقولة بحرا، خاصة النفط الخام والوقود من الخليج المتجه إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس أو خط أنابيب سوميد، بالإضافة إلى السلع المتجهة إلى آسيا، بما في ذلك النفط الروسي.
شركات مالكة لناقلات عملاقة قررت تعليق مرورها في باب المندب
يبلغ عرض باب المندب 30 كيلومترا في أضيق نقاطه، مما يجعل حركة الناقلات صعبة ومقتصرة على قناتين للشحنات الواردة والصادرة، تفصل بينهما جزيرة بريم.
وترى “إيكونوميست” أن هذه الهجمات سيكون لها تداعيات كبيرة أهمها ما يتعلق بالتأثيرات على الاقتصاد العالمي ودول إقليمية، ومخاطر التصعيد العسكري في الشرق الأوسط.
وتعد إيرادات قناة السويس مصدر دخل رئيسي لمصر خاصة من العملة الصعبة، فيما تعاني البلاد بالفعل من أزمة مالية حادة.
أما إسرائيل، فستتأثر أيضا، لكن بشكل أقل، إذ يمر نحو 5 في المئة من تجارتها عبر ميناءها على البحر الأحمر، إيلات.
وبالنسبة للاقتصاد العالمي، فإن الإغلاق المطول لقناة السويس من شأنه أن يرفع تكاليف التجارة مع إعادة توجيه الشحن حول أفريقيا، مما يؤدي إلى زيادة التكاليف، إذ ستضطر السفن للإبحار لوقت أطول، كما سترتفع تكاليف التأمين في هذه الحالة.
وحتى إغلاق قناة السويس لأيام معدودة قد يؤثر على حركة التجارة العالمية وسلاسل الإمدادات، إذ لا يزال العالم يتذكر، أزمة جنوح سفينة “إيفر غيفن” عام 2021، مما أدى لإغلاق القناة لستة أيام، وأحدث أزمة في سلسلة التوريد العالمية.
أزمة قناة السويس الجديدة
وأشار رئيس هيئة قناة السويس، الأحد، في هذا الصدد إلى تحول 55 سفينة للعبور عبر طريق رأس الرجاء الصالح خلال الفترة من 19 نوفمبر وحتى اليوم، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بعبور 2128 سفينة خلال تلك الفترة.
ويقول النحاس أن “بيان قناة السويس يعني أن مدى تأثيرنا هو 55 سفينة وهو عدد السفن التي تمر في يوم واحد في الشهر”.
لكنه يشير إلى أن شركات الشحن بدأت منذ يومين فقط تحويل إبحار سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
وقال: “ما يحدث سيؤثر على تكاليف مرور السفن، إذ سترفع شركات التأمين من تكلفة التأمين مما سيرفع أسعار الشحن والنقل”.
وأضاف أن “السفن الصغيرة ستصبح مستهدفة أكثر وربما المتوسطة أيضا، ولذلك ستبحث الشركات عن شاحنات عملاقة تحتوي على تقنيات أكثر تقدما للحماية والتحصينات”.
وأوضح أن “عدد السفن التي تمر عبر قناة السويس ستقل، وستكون الحاملات أكبر، ما سيزيد من تكلفة المواد المحملة على هذه السفن”.
ويشير إلى أن “العالم على أبواب طقس أشد برودة وتغيرات مناخية، ولذلك يهمه جدا المدة الزمنية لتوريد الشحنات وانتظام سلاسل التوريد، بحيث لا يحدث ارتفاع في الأسعار أو تضخم مرة أخرى بعد أن كانت الولايات المتحدة قد بدأت في السيطرة على التضخم والتوقف عن رفع سعر الفائدة”.
يعتقد النحاس أن هيئة قناة السويس ستقدم تنازلات وعروض تخفيضات حتى تجتذب المزيد من السفن، فضلا عن حشد عدد أكبر من السفن العسكرية المصرية لزيادة الحماية، فضلا عن تواجد مدمرات أميركية وبريطانية في البحر الأحمر من أجل ضمان حرية الملاحة.
عبر المضيق نحو 7.80 مليون برميل يوميا من شحنات النفط الخام والوقود في أول 11 شهرا من 2023، ارتفاعا من 6.60 مليون برميل يوميا طوال 2022، وفقا لشركة تحليلات النفط فورتيكسا.
ورصدت فورتيكسا عبور 27 ناقلة محملة بالخام أو الوقود يوميا في المتوسط في عام 2023، ارتفاعا من 20 في العام الماضي.
قالت إدارة معلومات الطاقة إن 12 بالمئة من إجمالي النفط المنقول بحرا في النصف الأول من 2023، وكذلك ثمانية بالمئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال، مرت من باب المندب وخط أنابيب سوميد وقناة السويس.
“هذه المخاطر هي السبب وراء ميل الولايات المتحدة وحلفائها إلى التحرك. لكن التهديد الحوثي شاق ومعقد”، بحسب “إيكونوميست”، إذ تمتلك الجماعة المدعومة من إيران ترسانة صواريخ عملاقة مضادة للسفن.
وليس من الواضح للمسؤولين الغربيين ما إذا كانت إيران هي التي توجه هذه الهجمات، لكن يُعتقد أن الحوثيين يتلقون معلومات استخباراتية عن الشحن من سفن المراقبة الإيرانية في البحر الأحمر. وتتناسب الحملة الواسعة على حركة الشحن مع استراتيجية إيران وذلك من خلال ممارسة ضغوط محسوبة، وتجنب شن هجوم شامل على إسرائيل مع الاعتماد على وكلائها الإقليميين لمهاجمة الدولة العبرية.
رد عسكري؟
ومع إغلاق أحد الشرايين التجارية الرئيسية في العالم فجأة، تعمل واشنطن وحلفاؤها على تكثيف نشاطها البحري في الشرق الأوسط، بل وربما تهاجم الحوثيين، من أجل إعادة الإمان للممر الحيوي، بحسب “إيكونوميست”.
وحذّرت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، الأحد، من أن هذه الهجمات “لا يمكنها أن تبقى من دون رد”، مؤكدة “نحن ندرس خيارات عدة مع شركائنا” من بينها دور “دفاعي لمنع تكرار ذلك”، بحسب ما نقلت عنها وكالة “فرانس برس”.
بينما اعتبر مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الأحد، أن تهديدات الحوثيين اليمنيين في البحر الأحمر “عالمية وتشكل تحديا دوليا”، مؤكدا أن “الولايات المتحدة عملت خلال الأسابيع الماضية، مع الحلفاء والشركاء على معالجته عبر توسيع فرقة العمل 153 المعنية بأمن البحر الأحمر في إطار القوات البحرية المشتركة”.
واتهم المسؤول إيران بأن لها “دورا مباشرا في هذا المستوى المحدد من الاعتداءات التي يقوم بها الحوثيون”.
لكن النحاس يستبعد، في حديثه مع موقع “الحرة” ردا عسكريا ضد الحوثيين، قائلا، إن “واشنطن لا تريد فتح جبهات جديدة ولا توسيع الصراع في الشرق الأوسط”، مشيرا إلى أن “أكثر ما يهم الولايات المتحدة ألا يتخطى سعر برميل البترول الثمانين دولارا”.
“الخطر في مضيق هرمز”
ويرى النحاس أن نسبة الارتفاعات في الأسعار ستكون هامشية وليست كبيرة، لأن 70 في المئة من حجم التجارة البحرية لن تتأثر، مشيرا إلى أن الخطر الكبير الذي قد يهدد العالم فعلا هو ما يمر مضيق هرمز”.
ويوضح أن “90 في المئة من إجمالي واردات البترول في الخليج الذي يذهب إلى منطقة الشرق الأدنى والأقصى يمر عبر مضيق هرمز. لو حصلت أي مشاكل في هذه المنطقة، فإن سعر برميل البترول سيرتفع بدرجة كبيرة”.
ولفتت وزارة الدفاع البريطانية في بيان في 30 نوفمبر الماضي، إلى أن 50 سفينة تجارية تمر يوميا عبر مضيق باب المندب، فيما تمر حوالى 115 سفينة تجارية من مضيق هرمز.
وتنشر بريطانيا سفنا بصورة مستمرة في المنطقة منذ 1980 وتنفذ البحرية منذ 2011 عملية أطلقت عليها اسم “كيبيون”، تؤمن وجودا بحريا بريطانيا في الخليج والمحيط الهندي.
وقال النحاس: “لا أقلق على باب المندب أو قناة السويس لأن حجم ما يمر منهما من منتجات نفطية نسبته من ثمانية إلى 12 في المئة”.
وأضاف: “إذا انتهت الحرب في غزة في يناير، وبالتالي التهديدات الحوثية في البحر الأحمر، ستتمكن قناة السويس من تعويض خسائرها سريعا، وكذلك التجارة العالمية، لأن حجم ما يمر في هذا الوقت من العام أصلا قليل نظرا للإجازات السنوية وإجازات السنة القمرية في الصين منتصف يناير، إذ تقل التجارة العالمية في ذلك الوقت من كل عام”.
وترى “إيكونوميست” أن الدبلوماسية قد تساعد على تهدئة الأزمة في منطقة باب المندب، عبر السعودية.
ففي عام 2015، تدخلت السعودية والإمارات في الحرب الأهلية في اليمن لصالح الحكومة المعترف بها دوليا. وفي مارس 2022، وافق السعوديون على وقف إطلاق النار، تاركين الحوثيين يسيطرون على العاصمة صنعاء، والساحل الغربي الاستراتيجي.
وبينما تستمر المفاوضات لجعل وقف إطلاق النار دائما وإنهاء الحرب، “يمكن أن تصبح الالتزامات بوقف الهجمات البحرية جزءا من أي محادثات”.