باتت “لغة الاقتصاد والأرقام” أكثر ما يتردد في الداخل التركي بعد خروج البلاد من انتخاباتها “التاريخية” وفوز رجب طيب إردوغان، وبينما أقدم الرئيس التركي على سلسلة خطوات مغيرا من خلالها فريقه السابق، يسود ترقب بشأن المسار الذي سيتخذه رجل يوصف بـ”صديق الأسواق” وامرأة بـ”الفتاة المذهلة”.
والرجل هو وزير الخزانة والمالية المعين حديثا محمد شيمشك، أما الامرأة فهي حفيظة غاية إركان، التي عينها إردوغان بمرسوم رئاسي ليلة الجمعة في منصب محافظ البنك المركزي، خلفا لشهاب قافجي أوغلو.
ويرى خبراء اقتصاد أن هذين الاسمين يعرفان من أصحاب السياسة التقليدية في الاقتصاد، على خلاف السائد في تركيا منذ عامين، إذ اتجهت الحكومة إلى تطبيق نموذج فريد، يوصف “بنموذج الاقتصاد التركي” أو نموذج “الاقتصاد الجديد”.
وبموجب السياسية غير التقليدية اتجه المصرف المركزي إلى خفض الفائدة إلى فئة “الآحاد”، ما انعكس على سعر صرف الليرة التركية، في وقت اعتبر المسؤولون في البلاد أن ما يقومون به “عاد بالإيجاب”، وهو ما تترجمه أرقام النمو.
ومنذ مطلع الأسبوع الجاري انخفضت قيمة الليرة التركية إلى مستويات غير مسبوقة، إذ كسرت حاجز الـ23 لأول مرة أمام الدولار الأميركي الواحد. وجاء ذلك بعد أيام من تعيين شيمشك كوزير للخزانة والمالية وقبل الإعلان رسميا عن تسليم إركان مهمة رئاسة المصرف المركزي.
وكان من المتوقع أن تصل الليرة التركية إلى هذا الحد، فيما تحدث خبراء اقتصاد في حديث سابق لموقع “الحرة” عن عدة عوامل تقف وراء ما حصل، على رأسها سياسة “القواعد العقلانية” التي بدأ شيمشك باتباعها، فضلا عن أسباب تتعلق بتوقف “المركزي” عن التدخل، خلافا لمرحلة ما قبل السباق الرئاسي والبرلماني.
“اختباران”
ويعرف شيمشك بلقب “صديق الأسواق”، وهو اقتصادي كبير لطالما تردد اسمه في المشهد الاقتصادي لتركيا، وفي الفترة التي استبقت اللقاءات التي أجراها معه إردوغان، وصولا إلى تعيينه في منصب وزير الخزانة.
كما يُنظر إليه على أنه اسم يطبق قواعد اقتصاد السوق الحر والسياسات الاقتصادية التقليدية، على خلاف ما يسير فيه الرئيس التركي، منذ أواخر عام 2021، بعدما أعلن المضي بالنموذج الاقتصادي الفريد.
ويقوم هذا النموذج على أن الفائدة هي سبب التضخم، وأنه يجب خفضها، وهو ما حصل لتصل إلى حد 8.5 بالمئة.
ومن غير الواضح ما إذا كان شيمشك سيمضي في المرحلة المقبلة خلافا لما اتبعه إردوغان وسلفه نور الدين نباتي.
وفي أعقاب الانخفاض المتسارع الذي شهدته الليرة التركية قبل أيام قدم تعليقات عبر حسابه الشخصي في “تويتر”.
وقال شيمشك: “لا توجد مشكلة لا تستطيع حكومتنا التغلب عليها. أتمنى أن نصل إلى أهدافنا بدعم من الجميع على هذا الطريق. اتخذنا خطوات حازمة في إطار الخطة والبرنامج، وفي إطار المبادئ التي حددناها”.
لكنه أضاف مستدركا: “نحن بحاجة إلى بعض الصبر والوقت”، وهو ما يراه خبراء اقتصاد اختبارا أمام هذا الاقتصادي في المرحلة المقبلة، وكونه لا يملك “عصا سحرية” لقلب المشهد السائد.
وإلى جانب الاختبار المذكور تواجه حفيظة غاي إركان محافظ المصرف المركزي الجديدة اختبارا يتعلق بمحطة الثاني والعشرين من يونيو الحالي، إذ ستجتمع لجنة السياسة النقدية، ويتم اتخاذ قرار، لا يعرف ما إذا كانت سترفع بموجبه الفائدة أم تبقيها أو تخفضها.
وإركان هي أول امرأة ترأس المصرف المركزي في تاريخ تركيا، وتوصف بـ”الفتاة التركية المذهلة”، حسب ما تقول وسائل إعلام، وكانت قد كونت معظم خبرتها في الولايات المتحدة الأميركية.
وتسلط أخبار وسائل الإعلام التركية عن إركان، وهي في أوائل الأربعينيات من عمرها، الضوء على خلفيتها التعليمية المشرقة وخبرتها في مجال التمويل الدولي.
ووفقا لصحيفة دنيا، وُلدت إركان لأب مهندس ميكانيكي وأم مدرسة رياضيات من إيلازيغ.
ويورد ملفها الشخصي في “لينكد إن” أنها أكملت تعليمها الثانوي في مدرسة اسطنبول الثانوية، وبعد تخرجها من قسم الهندسة الصناعية بجامعة بوغازيتشي في عام 2001 أكملت درجة الدكتوراه في الهندسة المالية من جامعة “برينستون” بالولايات المتحدة الأميركية.
ويشمل ملفها الشخصي الأعمال المصرفية والاستثمارات وإدارة المخاطر والتكنولوجيا والابتكار الرقمي كمجالات خبرة، ولاسيما أنها عملت كمدير إداري في بنكGoldman Sachs لما يقرب من 10 سنوات في بداية حياتها العملية.
وبين عامي 2014 و 2021، شغلت منصب عضو مجلس إدارة في First Republic Bank وهو بنك مقره سان فرانسيسكو.
ويشير تحليل لوكالة “رويترز” إلى أن ميول إركان فيما يتعلق بالسياسات التي ستنفذها غير مؤكدة لأنها ليس لديها خبرة في السياسة النقدية، ومع ذلك تحدثت وسائل إعلام تركية أن شيمشك أصر على تعيينها ضمن فريقه الاقتصادي الجديد، وكونها تحظى بثقل لافت من الخبرة.
ما المتوقع؟
وبعد انتخابات 2018، تمت إعادة هيكلة إدارة الاقتصاد تحت مسمى وزارة الخزانة والمالية وتم تعيين بيرات البيرق لهذه المهمة، لكنه استقال في ديسمبر 2020 وخلفه لطفي إلفان.
بعد ذلك بعام استقال إلفان بسبب فكره المخالف لسياسة خفض الفائدة، بحسب ما تذكر وسائل إعلام ليحل مكانه نور الدين نباتي، وهو الاسم الذي عاصر سياسة “نموذج الاقتصاد التركي الجديد”.
ولم تقتصر التغييرات على وزارة الخزانة في السنوات الماضية، بل طالت المحافظين، كونهم لم يؤيدوا سياسة خفض الفائدة، وعلى رأسهم ناجي أغبال.
وبعد أغبال عيّن الرئيس التركي شهاب قافجي أوغلو، وعاصر كما هو الحال بالنسبة لنور الدين نباتي النموذج الجديد، ومسار خفض الفائدة حتى حد 8.5 بالمئة.
وترى الكاتبة هاندي فيرات في مقالة على صحيفة “حرييت” أن انخفاض الليرة التركية المتسارع في الأيام الماضية مقابل الدولار “هو في الواقع نتيجة طبيعية للانتقال للسوق الحرة”، وهو السياسة التي بدأ شيمشك باتباعها.
وتضيف: “ما يحصل يمكن أن نطلق عليه عملية انتقال ناعمة، وبينما يعود سعر الصرف إلى قيمته الطبيعية، تتوقف الخسائر الاحتياطية للبنك المركزي”.
“بعد هذه المرحلة لن تكون هناك خسارة في الاحتياطيات، بل ستكون هناك حركة صعودية”، وتشير الكاتبة إلى أن “اجتماع لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي في 22 يونيو هو عامل سيؤثر بشكل مباشر على مستوى الصرف الأجنبي”.
ومن الصعب تحديد ما ستتخذه اللجنة بعد أيام، لكن من المتوقع أن يكون لهذا القرار تأثير على سعر الصرف.
واعتبرت فيرات أن “غاي إركان هي سلاح وإنجاز مهم لشيمشك، ومن المتوقع أن تصلح هذه السيدة الثقة الضعيفة في الأسواق بنفس منظور وزير الخزانة والمالية الجديد”، فيما تؤكد على فكرة “الوقت والصبر” وأنهما الاختبار الأساسي حاليا ولاحقا.
بدوره أشار الكاتب في صحيفة “قرار”، طه أكيول إلى أنه “يجب أن يدعم إردوغان شيمشك دون تدخل”، في إشارة منه إلى السياسة التي انعكست مؤخرا على وزارة الخزامة والبنك المركزي.
وقالت سيلفا ديميرالب، أستاذة الاقتصاد بجامعة كوج والخبير الاقتصادي السابق في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إن السؤال الرئيسي بالنسبة لحفيظة إركان سيكون “ما إذا كانت ستُمنح الاستقلالية لتوجيه السياسة النقدية نحو سياسات عقلانية “.
وأوضح محللون لوكالة “رويترز” أن عودة شيمشك وتعيين إركان مهد الطريق لرفع أسعار الفائدة، الأمر الذي قد يجذب المستثمرين الأجانب بعد نزوح جماعي في السنوات الأخيرة.
لكن الباحث الاقتصادي، مخلص الناظر اعتبر في حديث سابق لـ”الحرة” أن “رفع أسعار الفائدة في المرحلة المقبلة لن يفيد بالنسبة للحالة التركية، وفي حال تم ذلك سيكون الأمر بداية حزينة للسيناريو الأرجنتيني”.
وأضاف: “العمل خطر ويبدو أنه تم اتخاذ قرار بالتعويم بعد اجتماع الحكومة يوم الثلاثاء الماضي، بأن يرفع المصرف المركزي يده”.
ومع ذلك، أوضح الناظر أن “السيطرة على التضخم تبرز كتحد كبير، ولتحقيق ذلك يجب اتخاذ تقشفية عنيفة على المواطنين والشركات مثل رفع الضرائب من أصغر سلعة إلى أكبرها”.
كما “يجب تقييد للواردات والاستيراد من خلال فرض ضرائب على البضائع المستوردة لإغلاق عجز الحساب الجاري”.
متابعات