تُعَدّ معاصر السمسم من المهن الرائدة في اليمن، والتي تمر بأوضاع صعبة تهدد وجودها واستمرارها في إنتاج أهم الزيوت الرائجة في البلاد، والتي تشهد انخفاضاً كبيراً في المعروض مع ارتفاع أسعارها إلى مستويات قياسية بالنظر إلى دخل معظم الشرائح السكانية في اليمن.
ويحظى زيت السمسم أو “الجلجلان” و”السليط” كما يطلق عليه في اليمن باهتمام لافت من قبل المستهلكين مع تعدد استخداماته ودخوله في إعداد وجبات الطعام، وهو ما جذب إليه كذلك جزءاً من قطاع المطاعم التي تعتمد عليه في طهو الوجبات، بحسب طلبات زبائنها، أو إضافته إلى بعض الوجبات، كالخبز اليمني الشهير الذي يسمى الملوح و”الفتة” التي تعد بالتمر وطحين القمح والشعير.
في السياق، يوضح الباحث الاقتصادي جمال راوح، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن مثل هذه المهن والحرف التقليدية في اليمن كمعاصر إنتاج زيت السمسم ارتبطت بطرق مختلفة بعدة قطاعات إنتاجية، بالنظر إلى استخداماتها والمواد التي تعتمد عليها والمتمثلة بدرجة رئيسية بمحصول السمسم.
ويؤكد أن انخفاض إنتاج هذا المحصول بسبب تراجع وتقلص مساحته الزراعية أثر كثيراً في هذه المهنة التي ظلت طوال العقود الماضية معتمدة على الطريقة التقليدية المتوارثة عبر الأجيال، الأمر الذي جعلها عاجزة عن التأقلم والتكيف مع المتغيرات في سوق العمل والمهن والحرف والتطورات في شتى المجالات، في ظل الانفتاح التجاري الواسع والاستيراد المنفلت الذي أصبح يشمل أكثر من 90% من الاحتياجات الغذائية والسلعية.
وترصد “العربي الجديد”، التي تتبعت الخريطة الزراعية للسمسم في اليمن انخفاضاً تدريجياً في إنتاجيته خلال العشر سنوات الماضية، حسب بيانات رسمية، من 25.3 ألف طن قبل الحرب في البلاد إلى 22.6 طن في عام 2016، ليستمر بالانخفاض خلال الأعوام الأربعة الماضية وعدم استقراره، إذ يراوح ما بين 19 – 21 ألف طن، فيما تراجعت مساحته الزراعية من 23 ألف هكتار إلى أقل من 18 ألف هكتار.
وتشمل خريطة مساحته الزراعية سهول تهامة في محافظة الحديدة شمال غربيّ اليمن، التي تأتي في طليعة المناطق التي تزرع السمسم بكمية إنتاج تقدر بنحو 5.8 آلاف طن سنوياً من مساحة زراعية تصل إلى حوالى 7 آلاف هكتار، تليها محافظة مأرب شرق صنعاء، بما يقرب من 4.9 آلاف طن من مساحة زراعية تقدر بنحو 3400 هكتار، ثم تأتي أبين جنوبيّ اليمن بكمية إنتاج تصل إلى 3.8 آلاف طن من مساحة زراعية تبلغ 3700 هكتار.
ويشرح مالك أحد معاصر السمسم في صنعاء، عبد الملك الأبي، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن معاصر السمسم التقليدية التي لم يعد يعمل منها إلا عدد محدود للغاية، هي تلك التي تجرها الجمال والتي تظل لفترة زمنية تلف حول نفسها لاستخلاص زيت السمسم أو “الجلجلان”، ومن ثم تنقيته وتصفيته وتعبئته في عبوات بلاستيكية أو معدنية، وبيعه مباشرة للمستهلكين أو لبعض القطاعات التجارية.
ويراوح سعر العلبة الواحدة “بحجم قنينة مياه معدنية صغيرة، تساوي 0.75 لتر”، من زيت السمسم بين 6 و10 آلاف ريال، بحسب مستوى وجودة ونقاوة الزيت الذي يحظى برواج يتعلق بتعدد استخداماته الطبية كما يعتقد مواطنون يمنيون إلى جانب استخداماته الغذائية.
من جانبه، يقول عامل في “معصرة سمسم” تقليدية في محافظة مأرب، لـ”العربي الجديد”، إن العمل في هذه المهنة أمر شاق للغاية، ويتطلب جهداً كبيراً، في ظل شحّ الإمكانات والعائد المادي بسبب إهمال مثل هذه الأعمال والمهن والحرف اليدوية والتقليدية وضعف قدراتها الإنتاجية.
وتعتبر “دعدع” و”الكدادي” من أهم وأشهر المعاصر العاملة في إنتاج السمسم بمحافظة مأرب التي كانت ساحة مواجهة مفتوحة بين أطراف الحرب في اليمن طوال الأعوام الثمانية الماضية، إذ لا تزال تحافظ على نمطها التقليدي ولم تخضع لأي تطوير وتحديث بالآلات التقنية والكهربائية، فيما ينتشر في مدينة تعز عدد من معاصر السمسم التقليدية التاريخية التي يصل عمرها إلى عشرات السنوات، حيث تواجه ما بقي منها صعوبات بالغة في البقاء والاستمرار في العمل.
ويشكو أصحاب الأعمال والمهن الحرفية في اليمن من تأثير الحرب فيهم وعدم قيام السلطات المعنية بمساعدتهم على تطوير وتحديث منشآتهم والاهتمام والمساهمة في الترويج الداخلي والخارجي لمنتجات مهنهم وحرفهم، إضافة إلى إيلاء الكوادر ذات الخبرة الطويلة في هذا المجال عناية خاصة، ووضع البرامج والخطط المناسبة لنقل خبراتهم وتجاربهم للكوادر الجديدة من الشباب التي يمكن الدفع بها إلى العمل بهذه المهنة.
ويرى خبراء اقتصاد ورواد أعمال أن اندثار مثل هذه المهن والحرف والأنشطة يمثل كارثة حقيقية على اليمن، وإحدى كوارث الحرب التي سببت أكبر أزمة إنسانية يشهدها البلد المنكوب بالفقر والبطالة منذ عهود.
ويصف عضو في الجمعية اليمنية للأعمال الحرفية والمهن التقليدية، علي غيلان، في حديث لـ”العربي الجديد”، صمود ما بقي من معاصر السمسم بالأسطوري، بالرغم من مشقة البقاء في وجه ما يعتبره التجريف والاستهداف لمهن اليمنيين وحِرَفهم، وتراكم التحديات التي ضاعفتها الحرب الدائرة، في ظل حاجة مثل هذه المنشآت للدعم والمساندة الرسمية والشعبية للمحافظة عليها وتطويرها وتحديثها.
وتفتقد مثل هذه الحرف التقليدية والمنشآت الإنتاجية للتنظيم والتشجيع والتعريف بأهميتها وارتباطها بمكافحة الفقر والبطالة، في ظل تغاضي السلطات الحكومية عن تبني استراتيجية وطنية فاعلة لتنمية المنشآت والمهن الحرفية والأنشطة الاقتصادية والصناعية الصغيرة والمتوسطة لإكسابها جودة عالية تمكنها من المنافسة في السوق المحلية، ومساعدتها في تسويق منتجاتها وتصديرها.