نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعدته فيفيان نيريم وفيفيان يي قالتا فيه إن السعودية لم تعد تمنح قروضا مجانية للدول الفقيرة وباتت تستخدم مواردها النفطية لزيادة التأثير في الخارج.
ويعتبر الموقف من مصر هو أهم مظهر لهذا التحول. فقد حولت الرياض في معظم العقد الماضي مليارات الدولارات لحليف إقليمي فقير ونظر إليه بأنه كبير جدا ويجب عدم السماح بانهياره. وفي الفترة الأخيرة، ومع انزلاق مصر إلى أزمة اقتصادية عميقة، أرسلت السعودية رسالة صارمة: لا شيكات مفتوحة منذ اليوم.
وباتت السعودية بوضع شروط مع المساعدات مثل إصلاحات اقتصادية وتخفيض الدعم على المواد الأساسية. وتقول كارين يانغ، الباحثة البارزة في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا “كان يقال دائما: مصر كبيرة لكي يسمح لها بالسقوط” و”لكن الموقف الآن هو: مصر مسؤولة عن أخطائها”. وأنهت أكبر مصدر للنفط الخام في العالم عام 2022 بـ28 مليار دولار إضافية، بعدما دفعت الحرب الروسية في أوكرانيا أسعار النفط إلى معدلات عالية وجعلت الأموال تتدفق إلى خزائن الدول المنتجة للنفط.
ورغم العوائد الإضافية إلا أن المسؤولين السعوديين يقولون إنهم تعبوا من إرسال المساعدات إلى مصر وباكستان ولبنان لكي يراقبوها تتبخر.
ولا تزال المملكة ترسل الأموال إلى الخارج ولكن من أجل التأثير والاستثمار والمساعدة في دعم الصناعات الجديدة في البلد، مثل السيارات الكهربائية. وتتبنى السعودية نهجا مماثلا لصندوق النقد الدولي، مما يعطيها تأثيرا أوسع وأكثر من الماضي في السياسات الإقليمية والدول الكبرى مثل باكستان التي أصبحت مدينة لها بالفضل.
ونقلت الصحيفة ما قاله وزير المالية محمد الجدعان في منبر دافوس بسويسرا في كانون الثاني/ يناير “كنا نعطي قروضا مباشرة وودائع بدون شروط معها” و”لكننا نغير هذا ونعمل مع عدد من المؤسسات لكي نقول في الحقيقة: نريد رؤية إصلاحات”.
وأثارت تصريحات الجدعان لحرب كلامية من المعلقين المصريين التي عبرت عن قلق من اعتماد مصر العميق على دول الخليج الثرية مثل السعودية والإمارات. ورغم محاولة المسؤولين من البلدين ترطيب الأجواء إلا أن الحركية الجديدة للقوة لم تختف. فقد قام ولي العهد السعودي بتغيير الكيفية التي تستخدم فيها المملكة من عوائدها النفطية وعبر ملاحقة استثمارات تعود بموارد عالية وتأكيد التأثير. وتهدف السياسة لتشكيل اقتصاد البلد بعيدا عن النفط وتطوير قطاعات جديدة مثل التجارة والثقافة. وهو يتبع نموذجا انتهجته الإمارات وقطر من أجل تعزيز تأثيرهما في الخارج.
ويقول الخبير في مصر تيموتي كالداس، من معهد التحرير في واشنطن “ما تملكه دول الخليج وليس متوفرا لأحد في العالم هو الكثير من فائض رأس المال” و”هذا يأتي بقوة”. ففي آذار/ مارس وافقت السعودية على إيداع 5 مليارات دولار في المصرف المركزي التركي بشكل دعم اقتصاد البلد قبل شهرين من الانتخابات. وقد جلب هذا تركيا قريبا إلى مجال التأثير السعودي بعد سنوات من التوتر، والذي نجم عن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول عام 2018.
وبالنسبة لدول أخرى في الشرق الأوسط فقد تقلصت المساعدات السعودية إليها مع تغير أولوياتها. ففي عام 2016 علقت السعودية مساعدات للجيش اللبناني بعد شعورها بالإحباط من زيادة تأثير حزب الله اللبناني في السياسة اللبنانية وتوسع تأثير إيران المنافسة لها. ولم تسارع السعودية لدعم لبنان بعد الأزمة المالية التي خرجت عن السيطرة ودفعت الكثيرين للسطو على البنوك للحصول على ودائعهم المالية. وكان رفض التدخل إشارة عن التحول في أولويات المملكة.
وتبنت السعودية سياسة “السعودية أولا” لتعزيز المشاعر الوطنية. وفي العام الماضي أعلنت عن استثمار 24 مليار دولار في العراق والبحرين ومصر وعمان والسودان ولكن من خلال هيئة الاستثمارات العامة، وهو ما يسمح للمسؤولين السعوديين منح الأولوية لأرباحهم. ومع تخفيض العملة المصرية ثلاث مرات خلال العام الماضي، قامت الكيانات السعودية بشراء أصول مصرية وبأسعار مخفضة. وعلق كالداس قائلا: “الدولة تبيع أصولها مكرهة” و”ربما قالوا إنهم ينقذون مصر، ولكن من منظور المصريين، يرى بعضهم أنها استفادة من وضع سيء”.
وترى الصحيفة أن التحول يعكس تغيرات طويلة في العلاقات بين الدول العربية، حيث انحرف مركز الجذب من مصر التي كانت مركز القوة السياسية والثقافية نحو دول الخليج الغنية بالنفط. وهو أمر لم يقبله الكثير من المصريين. وعادت مشاعر الإحباط هذه السنة، فعندما كتب روائي سعودي تغريدة قال فيها إن مصر باتت أسيرة لصندوق النقد الدولي “مشرئبة العنق لأي مساعدة من هنا أو هناك”، رد عليه عبد الرزاق توفيق في افتتاحية صحافية قال فيها إن أهل الخليج هم الأغنياء الجدد “الحفاة العراة” ولا يحق لهم الإملاء على مصر.
إلا أن التعليقات اختفت من الإنترنت وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسي على الدعم الذي تلقته مصر من أشقائها العرب. وكان دعم دول الخليج للسيسي في انقلابه ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013 ضروريا ومهما. فقد اعتبرت السعودية والإمارات جماعات الإسلام السياسي تهديدا على أمنها.
وأرسلت السعودية في الفترة ما بين 2013- 2020 46 مليار دولار إلى مصر، على شكل ودائع مصرفية واستثمارات وغاز ونفط، حسب أرقام جمعتها يانغ من جامعة كولومبيا. وهي وإن انخفضت إلا أنها لم تتبخر، فعندما زادت الأزمة الاقتصادية دخلت دول مجلس التعاون الخليجي وأودعت المليارات لدعم الاحتياطي المصري الناضب ومساعدة مصر لدفع فواتير الاستيراد.
ولعبت السعودية دورا في حزمة الإنقاذ الأخيرة من صندوق النقد الدولي والتي اشترطت عليها جمع ملياري دولار من خلال بيع أصول حكومية لدول الخليج. وستضم هذه الأصول مصرفا وشركات مملوكة من الحكومة مما سيزيد من القلق حول السيادة المصرية. وقال كالداس إن وضع الحكومة المصرية “الدولة في هذا الوضع الهش” أمر مقلق بشأن “استقلالها الجيوسياسي” وعلى المدى البعيد.
ولا يزال الطرفان يتفاوضان حول استثمارات محتملة، والتغيرات في السياسة التي يطلبها السعوديون وصندوق النقد الدولي تضم قطع الدعم وتخفيف دور الجيش في الاقتصاد المصري. وبعد أشهر من المفاوضات حول الاستثمارات بدون نتيجة بدأ السعوديون بالشك حول قدرة مصر التعامل مع وضعها الاقتصادي.
متابعات