رجلا الأعمال “إيلون ماسك” و”جيف بيزوس” من بين أكثر سكان الأرض ثراء، لم ينقطع التنافس بينهما في الحقول الاقتصادية، لكنه أخذ في السنوات الأخيرة بُعدا جديدا يتمثل في اهتمامهما بالفضاء، وتخطيطهما لإقامة مشاريع عملاقة تهدف إلى نقل البشر من الأرض إلى كواكب بعيدة، مما يشكل كسرا لاحتكار بعض الدول لهذا المجال الحيوي والخطير في الوقت نفسه.
الوثائقي الفرنسي “ماسك ضد بيزوس.. حرب النجوم الجديدة” (Musk vs Bezos.. la nouvelle guerre des étoiles) يستكشف المشاريع الجارية الخاصة بهما، وتسابقهما المحموم للحصول على أكثرها نفعا وتحقيقا لطموح لا يحقق أرباحا خيالية فحسب، بل يتيح مجالا للسيطرة على فضاء تريد الدول العظمى البقاء لوحدها مهيمنة عليه، ويثير معه مخاوف من بروز سباق جديد بينها قد يؤدي إلى صراعات، وهذه المرة في الفضاء الخارجي، بعد أن اكتوت الأرض وسكانها بنيران صراعاتها.
عوالم الإنترنت.. بدايات بسيطة تصنع أغنى رجال العالم
يمهّد صانع الوثائقي “أغنيس هوبشمان” لفهم طبيعة الشخصيتين المتنافستين، عبر التحري عن مصادر اهتمامها بالفضاء، ويتضح من مراجعة تاريخها الشخصي أن هناك علاقة بين الحقل الذي عملا فيه منذ بداية انطلاقتهما، وبين ما يعملان عليه اليوم ويتنافسان للحصول عليه.
الاثنان “ماسك” و”بيزوس” دشنّا حياتهما العملية في ابتكار واستغلال ما يوفره حقل الإنترنت من إمكانيات هائلة للاستثمار، فقد نجح “ماسك” القادم من وادي السيليكون (عالم مطوري ومصنعي شرائح السيليكون للتكنولوجيا الحديثة في ولاية كاليفورنيا) في تأسيس شركته الخاصة بالبرمجة وهو في ربيعه الثاني والعشرين.
بدأ “ماسك” بإمكانات بسيطة، ثم سرعان ما وسّع مشاريعه في حقل الاستثمارات المالية ومضاربات البورصة، وقد بلغت حصة ما يملكه في شركة التداول النقدي “بي بال” وهو ما زال شابا 180 مليون دولار، ثم أخذ يوسع مشاريعه الخاصة ومن أشهرها “تسلا موتورز”، ليغدو في وقت قياسي من أغنى رجال العالم.
في نفس الوقت تقريبا كان “بيزوس” يحدث ثورة في مجال التجارة عبر شبكة الإنترنت، وحين بلغ 36 عاما أسّس شركة “أمازون” التي توصف بأنها “أكبر متجر في العالم”، ورافق نجاحه الهائل فيها تشغيلا لأمواله في حقل التداول النقدي، حيث بلغت استثماراته فيها ما يقارب 10 مليارات دولار أمريكي.
“سبيس إكس”.. مشروع لتحقيق طموحات الطفولة
كلا الرجلين -كما يتبيّن من مراجعة الوثائقي لطفولتهما- كان شغوفا بالفضاء، فقد نشآ في زمن كان عالَم الفضاء الغامض فيه يأتيهما عبر مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية، مثل “ستار تريك” (Star Trek) و”حرب النجوم” (Stars war).
كان حلم الوصول إلى الفضاء بسفينة يطلقها صاروخ من الأرض راسخا في ذهنيهما، وما إن بلغت ثرواتهما حدّا خياليا حتى شرعا بتحقيق ذلك الحلم، فقد أراد “إيلون ماسك” أن يكون أول شخص في العالم يرسل صاروخا محملا بالحيوانات والنباتات من الأرض إلى كوكب المريخ الذي كان مبهورا به، ولتحقيق حلمه ومشروعه التجاري الجديد استعان بمهندس وعالم الفضاء “جيم كانتريل”.
مدن فضائية متخيلة يراد لها أن تكون موطنا جديدا للبشر
سيثمر تعاونهما عن مشروع “سبيس إكس” للفضاء، ومن أجل تقليل نفقاته المالية فكّر بالذهاب إلى موسكو والاستعانة بخبرائها لإتمام مشروعه، لكن الروس لم يقتنعوا بفكرته ووجدوها خيالية غير قابلة للتحقيق، وعند عودته قرّر صناعة الصاروخ بنفسه، ولإنجاحه يكرس له نصف ثروته، لكنه حين شرع بالتنفيذ لم يكن يعلم أن شخصا آخر كان يعمل في ذات الوقت على تحقيق مشروع آخر مقارب لمشروعه.
“بلو أوريغن”.. سرية تكتنف سفينة نقل السياح إلى الفضاء
في ولاية سياتل الأمريكية كان “جيف بيزوس” يحيط مشروع “بلو” بسرية تامة، انطلاقا من مبدأ الكتمان الذي يأخذ به قبل اكتمال أي مشروع يشتغل عليه، فقد بنى في بداية الأمر مخزنا كبيرا وعلّق عليه لافتة تحمل اسم “بلو أوريغن”.
سيتضح لاحقا أن هذا الموقع يشهد عملا كبيرا لصناعة مركبة “نيو شيبرد”، ويُراد بها نقل سيّاح على متنها من الأرض إلى الفضاء الخارجي، وتحديدا إلى القمر. لم يكن يخطط لنقل ملايين من الناس لزيارة كواكب أخرى فحسب، بل حتى الإقامة فيها.
أما “ماسك، فقد حاول مع الفرنسيين مثلما حاول مع الروس في بادئ الأمر، لكنهم لم يتحمسوا لفكرته ولا للتعاون معه على تحقيقها، ويعترف رئيس مؤسسة الفضاء الفرنسي لاحقا بأنه ضحك من الفكرة ومن صاحبها.
مشروع بلو أوريغين السياحي الطموح بقيادة جيف بيزوس في ولاية سياتل الأمريكية
الدافع لطلب المشاركة من جهات أخرى مرده التكلفة الباهظة للمشروع الخاص، وأيضا لصعوبة الحصول على عاملين مختصين فيه، لأن أكثرهم يعمل في مؤسسات تابعة للدولة مثل “ناسا”، أو شركات محتكرة لصناعة الطيران مثل “ليكهود مارتن” و”بوينغ”، ورغم ذلك فقد شرع “ماسك” ببناء أول صاروخ خاص أطلق عليه اسم “فالكون”، وذلك نسبة إلى اسم سفينة الفضاء في مسلسل “حرب النجوم”.
“فالكون”.. لاعب جديد يكسر الهيمنة على السماء
في عام 2006 اختار “ماسك” جزر مارشال مكانا يبني فوقه القاعدة التي ينطلق منها الصاروخ، بينما اختار “بيزوس” في زمن مقارب منطقة صحراوية في ولاية تكساس، لبناء قاعدة إطلاق أولى صواريخ مشروع “بلو أوريغن” من فوقها.
بعد ست سنوات من العمل والجهد الكبير المبذولين لإطلاق “فالكون”، ينقل الوثائقي التجارب العملية التي أجريت عليه في عام 2008، وكانت تمثل تحديا كبيرا لـ”ماسك”، فقد خطّط لإجراء ثلاث محاولات لإطلاقه ودورانه حول الأرض، لكنها لم تنجح كلها، فأضاف إليها محاولة رابعة تكللت أخيرا بالنجاح.
وقد مثّل نجاح إطلاقه فتحا في عالم صناعة الفضاء الخاصة، وكسرا لاحتكار الدول لها، مما أقنع “ناسا” بجدية المحاولات، وعليه قررت عقد اتفاقية مشتركة مع “سبيس إكس” للقيام بـ12 رحلة مأهولة للفضاء.
لم يكتفِ صاحب المشروع المليادير الطموح، بل راح يوسعه ويجعله قادرا على نقل روّاد فضاء أمريكيين إلى محطة “آي أس أس” المتمركزة في الفضاء الخارجي، وبموافقتها على المشروع فسحت “ناسا” المجال لـ”ماسك”، للدخول في منافسة مفتوحة مع شركة “بوينغ” العملاقة.
رائدا القطاع الخاص.. منافسة بين الرجلين على الرقم الأول
نجاحات “ماسك” السريعة قابلتها نجاحات لـ”بيزوس” في الحقل نفسه، لكنها كانت تسير في إيقاع أبطأ. ففي عام 2015 عرض محاولته لإطلاق أول مركبة فضائية قابلة للرجوع للأرض بعد الوصول إلى هدفها في الفضاء.
التنافس بين جيف بيزوس وأيلون ماسك في كافة المجالات
ينقل الوثائقي -المشوق والكاشف لحقائق ومعلومات غنية- تفاصيلَ التجربة الناجحة التي تمثل فتحا في مجال الاستثمارات الخاصة في الصناعات الفضائية.
بعد نجاحهما تتصاعد الحملات الدعائية لكليهما، ويشتد التنافس بينهما أكثر من قبل، فكلٌّ منهما يدعي بأن مشروعه هو الأفضل والأقل تكلفة، لكنهما لا يشيران إلى الأهداف الكامنة وراءه، وما يشكله من تحديات لمؤسسات راسخة تابعة لدول.
على المستوى التجاري يقدم “ماسك” مشروعا سياحيا مغريا وتنافسيا، إذ تكون تكلفة نقل سائح إلى خارج كوكب الأرض أقل بـ30% من تكلفة صواريخ “أريان” الأوروبية. يثير نجاحه السريع قلق الفرنسيين والأوروبيين، في حين تعامل الروس معه بعدم مبالاة أول الأمر، لكن بعد مدة شعروا أنه يشكل تهديدا حقيقيا لسيطرتهم المطلقة في مجال الوصول إلى محطة الفضاء “آي أس أس” عبر كبسولاتهم المأهولة برواد فضاء.
سيدفع ذلك الواقع الأمريكيين للتحرك وكسر الهيمنة الروسية عبر تشجيع شركاتها لصناعة مركبات فضاء تقل رواد فضاء مثل التي يملكها الروس.
فوضى السماء.. سباق القوى العظمى يتيح الفرصة للقطاع الخاص
لم ينحصر التنافس الفضائي على الروس والأمريكيين فحسب، بل دخلت على خطه الصين التي دخلت نادي الفضاء منذ إطلاقها عام 2003 أول مركبة فضاء حول مدار الأرض، وبسبب نجاح التجارب الخاصة بـ”زيوس” و”ماسك” فقد تشجعت على المضي في تطوير برنامجها الجديد الذي أعلنته عام 2014.
طموح لنقل الحيوانات والنباتات من الأرض إلى كواكب أخرى
ويلاحظ الوثائقي أن التنافس الحاصل بين القوى العظمى يتيح لأصحاب المشاريع الخاصة دخول حقول جديدة، مثل امتلاكهم لمحطات أقمار صناعية، وإطلاقهم الآلاف منها في الفضاء، ليزدحم بها ويتسبب في حوادث تصادم غير محمودة العواقب، كما يحذر خبراء فضاء شاركوا في الوثائقي.
إلى جانب ذلك يتبيّن حجم الأرباح الهائلة المنتظرة من وراء دخول “ماسك” و”بيزوس” لنادي الفضاء الدولي، فالرحلات السياحية التي يخططان لها تدرّ عليهما أرباحا كونية، والسبب أن زبائنهما هم من الأثرياء القادرين على دفع عدة ملايين من الدولارات ثمنا لرحلات قصيرة لا تزيد مدتها عن ساعات قليلة.
شهية الربح.. هواجس الهيمنة على الفضاء الخارجي
هواجس نقل البشر إلى كواكب أخرى، تزداد مع شدة ربط أصحابها باحتمال قرب نهاية كوكب الأرض كما يظهر في تسجيل فيديو يعرضه الوثائقي لـ”ماسك” أثناء مشاركته في معرض لصناعة الفضاء أقيم في المكسيك، وقد أشار فيه إلى خطته لنقل ملايين من البشر مستقبلا للعيش فوق سطح المريخ، بدلا من الأرض المليئة بالمشاكل، فهي بحسب رأيه لم تعد مكانا صالحا للعيش.
كلام مشابه يسربه “بيزوس” عند تقديم فكرته المستقبلية الخاصة بالسياحة الفضائية، ويضيف إليها جانبا آخر يقترح فيه العيش داخل محطة فضائية تدور حول الأرض، قادرة على استيعاب قرابة مليون إنسان.
الجانب الربحي واضح في المشاريع المستقبلية، لكنها وضمنا تفتح شهية دول قادرة على إقامة مشاريع مشابهة، بفارق أنها تهدف من ورائها إلى السيطرة والهيمنة على الفضاء الخارجي، مما يفتح باب التنافس واسعا بين الدول العظمى، ومعها تزداد احتمالات نشوب حروب جديدة، وهذه المرة لن تكون على سطح كوكب الأرض، بل في الفضاء السرمدي الواسع.