في مساحة يختلط فيها الفن بالشغف، والجرأة بالدقة، تواصل المخرجة السورية رشا شربتجي رسم مسارها الخاص، مسار لا يشبه سوى بصمتها الإخراجية التي أصبحت علامة فارقة لدى الجمهور والنقاد على حد سواء. من عملٍ إلى آخر، تثبت رشا شربتجي أن رؤية المبدع قادرة على أن تهز الوجدان، وأن تحوّل الحكايات إلى ذاكرة حيّة تعيش طويلاً بعد انتهاء العرض.
في حوار الأسبوع مع “موقع فوشيا”، نقترب من رشا شربتجي، لنبحر في إبداعها الإخراجي، عائلتها، مصادر إلهامها ووجوه متعددة من حياتها، لنكتشف سر النجاحات المتتالية، والحضور الإنساني، والوعي البصري الذي جعلها من أكثر المخرجات تأثيراً في المشهد الدرامي المعاصر.
رشا شربتجي: الانسجام مع الممثلين لا يعني التكرار
سيبصر مسلسل “مطبخ المدينة” النور أخيراً، هل ستؤثر تلك التأجيلات في جودة العمل؟
التأجيلات لا علاقة لها بجودة العمل الفني، بل نتيجة لتغييرات في الجدول الزمني، فكان من المفترض عرض المسلسل في رمضان 2025 وتم تأجيله إلى رمضان 2026. ولم يتم تعديل العمل نفسه، بل كان التأجيل بسبب بعض الظروف الخارجية فقط.
لكن العمل تعرض لكثير من الشائعات والأخبار المغلوطة، كيف تعاملتِ معها؟
بشكل عام أتعامل مع الشائعات بتجاهل تام. أتركها تنطفئ من تلقاء نفسها، وإن كانت الشائعة كبيرة وتواصل معي الصحفيين لتبيان الأمر، أتعامل معهم بصدق وأقدّم لهم الحقيقة من دون تلاعب أو تزوير.
عندما تختارين ممثليين لأدوار معينة وبعدها يتغيرون، كيف تتعاملين مع هذا التغيير؟ هل يتم إعادة بناء الشخصية مجدداً؟
الشخصية لا تعتمد على الممثل فقط، بل تُبنى على مواصفاتها وتطوراتها وتاريخها داخل العمل الدرامي. من الممكن أن تتغير بعض التفاصيل لتناسب أسلوب الممثل الجديد، ولكن الشخصية نفسها تبقى ثابتة لأنها ترتبط بتطورات القصة وبنية العمل. وبالطبع، لكل ممثل بصمته الخاصة، وبالتالي قد تُقدّم الشخصية بطريقة مختلفة قليلاً، لكن لا يُعتبر ذلك تغييراً جذرياً.
ما سر تمسكك بـ”مطبخ المدينة” رغم العروض الأخرى التي وصلتكِ؟
أولاً: أحب هذا العمل كثيراً، وثانياً: هنالك جانب أخلاقي في التزامي تجاه الشركة المنتجة والكاتب والفريق الفني. لم أكن أستطيع أن أتركه وأمضي فقط لأنني تلقيت عروضاً أخرى.
تشكلي ثنائية ثانية مع شقيقك يزن شربتجي في “النويلاتي”، كيف تصفين هذا التعاون؟
يزن مخرج موهوب وذكي، يعرف تماماً ما يريد ويستحق كل الدعم. أنا سعيدة للغاية لأنني أتشارك معه في هذا العمل، وإن كان تدخلي في هذه المرة بسيطاً جداً، حيث يقتصر على الإشراف الفني فقط. أما الشغل الأكبر والأنجح فيعود إليه. أنا هنا كداعم وشريك أقدّم بعض النصائح. يزن قادر على إتمام هذا العمل بنجاح، وأتوقع أن يشاهد الجمهور عملاً “يرفع الرأس”. النص ذكي ولطيف، والديكورات جميلة جداً من تصميم أدهم الناوي، بينما يقدّم رائد صنديد صورة رائعة. كما يضم العمل نجمنا الجميل سامر المصري الذي كان غائباً عن هذا النوع من الأعمال لفترة طويلة. ولا يمكننا أن ننسى أيضاً النجمة المتألقة ديمة قندلفت، إضافة إلى مجموعة من النجوم الكبار مثل محمد حداقي وفادي صبيح وجلال شموط وآخرون. كل هؤلاء النجوم سيقدمون عملاً رائعاً بكل تأكيد. وأنا سعيدة جداً بالتعامل مع الكاتب عثمان جحى وشركة “غولدن لاين” للإنتاج.
كيف توازنين بين انشغالك في “مطبخ المدينة” وإشرافك الفني على “النويلاتي”؟
الحقيقة، لم يكن هناك أي ضغط، لأن التحضيرات جرت في مرحلة سابقة للعمل على “مطبخ المدينة”، وبالتالي لم يكن عبئاً كبيراً عليّ. وأيضاً، العبء الأكبر في “النويلاتي” كان على يزن، وأنا كنتُ أتابع بعض مشاهد المونتاج فقط، ولم أكن بحاجة إلى تقديم الكثير من النصائح نظراً لأنه كان يسيطر على الأمور بشكل جيد.
كيف تردين على انتقادات تكرار الأسماء نفسها في معظم مسلسلاتك؟
الانسجام مع الممثلين لا يعني التكرار، بل الثقة التي تتيح المغامرة. عندما نعرف بعضنا فنياً وإنسانياً، نصبح أكثر قدرة على كسر القوالب واكتشاف مناطق جديدة معاً. المهم أن يبقى بيننا فضول التجربة لا راحة التكرار.
رشا شربتجي: الدراما السورية قادرة على النهوض والعودة إلى مكانتها البارزة
من بين أعمالكِ السابقة، أي مسلسل شكّل نقطة تحول في مسيرتكِ؟ ولماذا؟
هناك العديد من الأعمال التي شكّلت نقطة تحول في مسيرتي، ومنها “غزلان في غابة الذئاب” الذي كان بمثابة نقلة كبيرة بالنسبة لي. ثم تلاه “المسلسل الكوميدي “خمسة وخميسة”، وكذلك “أولاد الليل” و”ابن الأرندلي” و”شرف فتح الباب” الذي قدّمني للساحة المصرية، وأعمال مثل “زمن العار” و”الولادة من الخاصرة” و”تخت شرقي” و”كسر عضم” و”ولاد بديعة”، كلها كانت محطات مهمة في مسيرتي، وكل عمل من هذه الأعمال كانت له بصمة خاصة.
هل لمست تحديات خاصة تواجه المخرجات في العالم العربي؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟
لا شك أن هناك تحديات، خاصة أننا نعيش في مجتمع ذكوري حيث تقود المخرجة مجموعة كبيرة من الفنانين والفنيين الرجال؛ ما قد يسبب بعض التحديات. لكنني لم أواجه هذه الصعوبة شخصياً، لأنني تعاملت مع الجميع بحب واحترام. التحدي الآخر هو طبيعة العمل التي تتطلب ساعات طويلة؛ ما يؤثر في الحياة الاجتماعية والعائلية للمخرجة.
هل تعتبرين الدراما قادرة على المساهمة في تغيير الصورة النمطية عن النساء في المجتمع العربي؟
الدراما محرك حقيقي للتغيير. والفن بشكل عام يمكن أن يشعل شرارة التغيير في أي مجال. وبالطبع، للدراما دور كبير في تغيير الصورة النمطية عن النساء في المجتمع العربي، وقد شاهدنا هذا التغيير في أعمال مصرية وسورية وخليجية في السنوات الأخيرة. ولكن التغيير الحقيقي يبدأ من الأسرة والمدرسة. ومع ذلك، تظل الدراما وسيلة مؤثرة وسريعة في إشعال هذا التغيير.
كيف ترين الدراما السورية مستقبلاً؟
أرى أن الدراما السورية، رغم الظروف الصعبة التي مرّت بها خلال السنوات الماضية، قادرة على النهوض والعودة إلى مكانتها البارزة في العالم العربي. ولا سيما أن لدينا في سوريا تاريخ طويل من الإبداع الفني. المستقبل حافل بالأمل إذا تمكنا من الاستفادة من التحديات السابقة في تطوير صناعتنا الفنية، وفتح آفاق التعاون مع صنّاع الدراما في الدول العربية الأخرى، مع الحفاظ على هويتنا الخاصة، وهو ما سيجعل من الدراما السورية جزءاً لا يتجزأ من المشهد الفني العربي في السنوات القادمة. وهنا أثني على عمل القائمين على الدراما، إن كان اللجنة الوطنية للدراما أو نقابة الفنانين أو حتى لجنة صناعة السينما والتلفزيون، حيث أرى أن كل جهة تقوم بدورها على أكمل وجه بكل ضمير وصدق وتنسيق وتناغم غير مسبوق بين بعضها البعض، وهو ما يقودنا بكل تأكيد إلى إنتاج درامي عالي الجودة.
كيف يمكن للدراما أن تُحدث التغيير؟
أؤمن أن الدراما ما زالت قادرة على لمس الوعي الإنساني، حتى في زمن السرعة والاستهلاك. التغيير لا يحدث دفعة واحدة، بل عبر تراكم المشاعر والتجارب. حين يرى الإنسان نفسه بصدق على الشاشة، يبدأ التغيير من الداخل، والفن الحقيقي هو الذي يُشعل هذا الشرارة.
رشا شربتجي: الفنان السوري يحمل مسؤولية كبيرة
هل تقع على الفنان السوري مسؤولية مجتمعية معينة في الوقت الراهن؟
بالتأكيد، الفنان السوري يحمل مسؤولية كبيرة في الوقت الراهن. فالفنان جزء من مجتمع يعاني تحديات كبيرة، لذلك لا بد له أن يكون صوتاً للتغيير الإيجابي. كما يمكن أن يسهم في توعية المجتمع ورفع مستوى الوعي حول القضايا المهمة، ويجب أن يكون على وعي تام بتأثيره في الجمهور وأن يحرص على أن يكون جزءاً من الحل، لا المشكلة.
هل وقع بعض الفنانيين في فخ التصريحات الجدلية؟
ربما ذلك. ففي وقتنا الحالي، أصبح الإعلام سيفاً ذو حدين، فقد يساعد على نشر الآراء والأفكار والمواقف بشكل سريع، لكنه في الوقت نفسه قد يكون مدخلاً لإطلاق تصريحات غير مدروسة. لذلك من المهم أن يتعامل الفنان مع الإعلام بحذر، وأن يختار كلماته بعناية، فالفن ليس محصوراً بالتمثيل أو الإخراج فقط، بل أيضاً بالرسالة التي يحملها.
بماذا تنصحين الفنانين السوريين بما يتعلق بالإطلالات الإعلامية؟
لستُ بمكان يؤهلني لتوجيه النصائح لأحد، لكني أتمنى أن يكون الفنانون واعين تماماً لما يطلقونه من تصريحات في إطلالاتهم الإعلامية بحيث تكون مدروسة بعناية، لأن الإعلام هو مرآة الفنان، وفي بعض الأحيان قد تكون تلك الإطلالات فرصة لتعزيز الوعي الثقافي والاجتماعي.
آخر عمل سوري لبناني مشترك لكِ كان “ما فيي 2” عام 2020، لماذا توقفتِ عن إخراج هذا النوع من المسلسلات؟
“ما فيي” كان تجربة مميزة جداً، ولكن هنالك ظروف معينة تجعل من الصعب تقديم نوع واحد من الأعمال بشكل منتظم. مع ذلك، لا أستبعد أن أعود لهذا النوع من المشاريع عندما تتاح لي الفرصة وتتوفر الظروف الملائمة.
كيف ترين تطور صناعة الدراما العربية في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل انتشار الدراما المعربة؟
الدراما العربية شهدت تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، خاصة مع دخول التكنولوجيا والإنتاج الضخم إلى المشهد الفني. الدراما المعربة أصبحت أكثر تنوعاً وتقدم أبعاد جديدة من حيث الموضوعات والإنتاج. في الدراما المعربة نلحظ اهتماماً أكبر بتفاصيل الصورة، من التصوير السينمائي إلى الإضاءة والمواقع المبهرة؛ ما يعطي العمل طابعاً عالمياً ويجعل المشاهد يشعر وكأنه في فيلم سينمائي وليس مجرد مسلسل درامي. إضافة إلى ذلك، هناك اهتمام متزايد بالتأثيرات البصرية والمونتاج المتقن؛ ما يجعل الإنتاج أكثر احترافية ويعكس الجودة العالية.
قيل إن هناك جزءا ثالثا من مسلسل “بنات الثانوية”، هل ممكن أن تقودين دفة الإخراج فيه؟
“بنات الثانوية” من الأعمال التي تركت أثراً كبيراً عندي ولدى الجمهور. وفكرة تقديم جزء ثالث من العمل واردة، وبكل الأحوال لا أمانع في العودة إلى العمل، بل أسعد في ذلك.
رشا شربتجي: مستقبل زوجي الفني سيكون مشرقاً
كيف توازنين بين حياتك المهنية والزوجية؟
التوازن بين الحياة المهنية والشخصية يتطلب الكثير من التنظيم. أؤمن بأن الدعم المتبادل والتفاهم بين الزوجين هو الأساس. مع أن العمل في مجال الفن يتطلب جهداً كبيراً وتضحية في أوقات كثيرة، إلا أنني أحرص على تخصيص وقت للحياة الشخصية والعائلية. الحياة الزوجية تحتاج إلى احترام واهتمام متبادل، وأنا محظوظة بأنني أحظى بشريك يفهم طبيعة عملي ويدعمني.
ما سر نجاح زواجك من الممثل إبراهيم شيخ إبراهيم؟ وما الأسس التي بنيتما عليها علاقتكما الزوجية؟
السر كله في الاحترام المتبادل، وبأن ترى الشخص الآخر ككائن مستقل، مع طموحاته وأحلامه، وفي نفس الوقت تتعاونان على بناء شيء مشترك. وما يجعل الزواج ناجحاً هو أن كل طرف يعرف كيف يتقبل الآخر، حتى مع اختلافاته. وأرى أن الزواج الناجح مثل تركيب قطعة موسيقية، كل طرف في العلاقة يُضيف لحنه الخاص، ولكن العمل الجميل يأتي عندما يتناغم اللحنان معاً. ولا أحد يمكنه أن يعيش في علاقة ناجحة إذا لم يشعر أنه مُقدّر من الآخر. أيضاً، الزواج الناجح يحتاج إلى الاستماع، ليس فقط للكلمات، بل لما وراءها أيضاً. ورغم صعوبة الحياة المهنية، فإننا دائماً نحرص على دعم بعضنا البعض في كل مراحل حياتنا.
ماذا تتوقعين لمستقبل زوجك فنياً؟ وما أهم نصائحك إليه؟
أعتقد أن مستقبل زوجي الفني سيكون مشرقاً، فهو يتمتع بموهبة كبيرة واهتمام دائم بتطوير نفسه. نصيحتي له أن يستمر في العمل الجاد والتطور المستمر، وأن يظل حريصاً على اختيار الأعمال التي تضيف له.
هل تتشاوران في اختياراتكما الفنية؟ ولمن الرأي الحاسم بينكما؟
نعم، نتشاور في اختياراتنا الفنية بشكل دائم. التعاون الفني بيننا يعزز من فرص اتخاذ قرارات مدروسة بشكل أكبر. لكن في النهاية، كل واحد منا يحترم وجهة نظر الآخر، وعادةً ما يتم اتخاذ القرار بالاتفاق بيننا. لا يوجد رأي حاسم، بل نحن نعمل معاً لتقييم الوضع من جميع جوانبه.
رشا شربتجي لـ”فوشيا”: الحلم الفني لا يتوقف
كيف تحافظين على التوازن بين الحس الإنساني والجانب التقني في أعمالك؟
الجانب الإنساني هو جوهر العمل الفني بالنسبة لي، لأنه يعكس الواقع والمشاعر التي يعيشها الناس. لكن لا يمكن إغفال الجانب التقني، فهو الذي يضمن تقديم هذا العمل بشكل محترف ومؤثر. التوازن بين الاثنين يتم من خلال الاهتمام بالتفاصيل الفنية، مع الحرص على أن تكون القصة والشخصيات محورية وأن تلامس وجدان الجمهور.
ما الحلم الفني الذي لم يتحقق بعد بالنسبة لكِ؟
الحلم الفني لا يتوقف، حتى مع النجاح، لأن الإبداع يحتاج دائماً إلى تحديات جديدة وآفاق غير مستكشفة. وبالتالي أطمح دوماً أن أنجز أعمالاً تغير قواعد اللعبة في صناعة الدراما، ليس فقط من حيث المحتوى، ولكن أيضاً في شكل السرد وطريقة تقديمه. وفي النهاية، طموحي هو أن أترك بصمة فنية لا تُنسى، وأن أصنع محتوى يرتقي بالذائقة الفنية للجمهور ويُسهم في التغيير نحو الأفضل.
من هو مصدر إلهامكِ في الحياة ماضياً وحاضراً؟
في الماضي، كان والدي المخرج الكبير هشام شربتجي رحمه الله مصدر إلهامي الأول. لقد تعلمت منه الكثير ليس فقط على الصعيد الفني، بل أيضاً في كيفية التعامل مع الحياة بشكل عام. كانت لديه رؤية فنية واضحة وأسلوب مميز في العمل الذي دائماً ما كان يحترم المشاهد قبل كل شيء. كنتُ أتابع بشغف كيف كان يتعامل مع تفاصيل كل مشروع، وكيف كان يسعى دائماً لتقديم شيء يعكس الواقع بصدق. هذا الإصرار على الجودة والصدق الفني كان يشكل أساساً كبيراً في بناء شخصيتي الفنية. أما في الحاضر، فإلهامي يأتي من كل شخص يسعى لتقديم الأفضل، خاصةً أولئك الذين يتحدون الظروف ليصلوا إلى هدفهم. أستمد إلهامي من الأشخاص الذين يلتزمون بالقيم التي تربيت عليها، سواء في الفن أو في الحياة اليومية، من أولئك الذين يجمعون بين الحب والإبداع في أعمالهم.
متابعات