في كثير من الأحيان، ننجذب إلى أشياء لا نفهمها بشكل واضح، كلوحة تجريدية مثلاً لا نعرف ما تمثله أو تشرحه، أو موسيقى لا تتبع النمط الذي اعتدنا عليه، أو نحوها.
هذا الميل الغريب نحو الغموض والتعقيد ليس مجرد شيء غريب عابر في ذوقنا، بل هو ظاهرة نفسية لها جذور عميقة في طريقة عمل العقل البشري. العقل بطبيعته يميل إلى البحث عن المعنى، وعندما يُواجه شيئاً غير واضح أو غير مكتمل، يبدأ في ملء الفراغات وإنتاج تفسيرات ممكنة. هذا التفاعل الداخلي مع الغموض هو ما يجعل بعض الأشياء أكثر إثارة للاهتمام، لأنها تستفز خيالنا وتحفّز مناطق التفكير العميق في أدمغتنا.
دراسة أجراها الباحثان د. جاكيش ود. ليدر، وزملاؤهما، ونشرت في مجلة Frontiers in Psychology عام 2017 حول دور الغموض البصري في تقدير الفن باستخدام تقنية قياس نشاط عضلات الوجه، جاء فيها: «الغموض في الحياة اليومية غالباً ما يتم تقييمه بشكل سلبي، إلا أنه يُعتبر أساسياً في تقدير الفن. في دراسة نشاط عضلات الوجه، قدمنا إصدارات غامضة (غير سلسة) وغير غامضة (سلسة) من لوحات الفنانة ماغريت ووجدنا أن تنشيط عضلة الابتسام في الوجه كان أعلى وكان تنشيط عضلة الانزعاج وتقطيب الحاجب أقل في الإصدارات الغامضة منه في الإصدارات غير الغامضة».
هذا الجزء من الدراسة يوضح بشكل مباشر أن الغموض البصري لا يعتبره عقلنا عقبة في الفهم، بل يولد استجابة عاطفية إيجابية وفرصة للتفاعل الذهني، وهذا الشيء يدعم فكرة أن الغموض عنصر أساسي في التجربة الجمالية ولا يعتبر عيباً بها. ذكرت الدراسة أيضاً في الملخص: «تعكس نتائجنا تقييماً عاطفياً مستمراً إيجابياً للغموض البصري في اللوحات على مدار وقت العرض البالغ 5 ثوانٍ. ندعي أن هذه النتيجة دليل غير مباشر على الفرضية القائلة بأن المحفزات البصرية المصنفة على أنها فن، تثير حالة آمنة للانغماس في تجربة الغموض، ما يتحدى فكرة أن طلاقة المعالجة مرتبطة عموماً بالتأثير الإيجابي».
قد يكون الانجذاب لما لا نفهمه ليس ضعفاً معرفياً، بل صفة من صفاتنا نحن البشر. كأنه نوع من التعبير عن فضولنا ورغبتنا في الاكتشاف، وعن استعدادنا لخوض مغامرة فكرية. الغموض لا يربكنا فقط، بل يحركنا. يجعلنا نطرح الأسئلة ونعيد النظر، ونسعى وراء الفهم، ليس لأننا نحتاجه بشكل ضروري وعاجل، بل لأننا نحب أن نبقى في حالة من البحث.
متابعات