نحن نعيش في زمن لم يعد فيه البعد الجغرافي عائقاً لكي نتواصل. أصبح الهاتف الذكي نافذتنا يومياً إلى العالم، وصار بضغطة زر يمكن أن نتحدث مع من يعيش في قارة أخرى، أو نشارك لحظة مع مئات الأصدقاء في التوقيت نفسه، ويبدو الأمر وكأننا نعيش عصراً ذهبياً من الترابط مع البشرية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل نحن حقاً أكثر تواصلاً، أم أننا أصبحنا أكثر عزلة؟.
لا يمكن إنكار أن المجتمع الرقمي قد منحنا فرصاً غير مسبوقة وميزات قوية، فقد جعل العلاقات أسرع وأوسع، وفتح الباب لتبادل الثقافات والأفكار. يستطيع الطالب أن يتعلم من جامعة عالمية من دون مغادرة غرفته، والعائلة المهاجرة يمكنها أن تحافظ على صلتها رغم المسافات، هذه الجوانب الإيجابية جعلت من العالم كأنه قرية صغيرة، بالفعل.
لكن الوجه الآخر للقصة أكثر تعقيداً عندما ننظر من زوايا أخرى، التواصل الرقمي رغم كثافته، غالباً يكون سطحياً، والمحادثات السريعة المليئة بالرموز التعبيرية قد تعطي وهماً بالحميمية، لكنها تفتقد العمق الذي تحمله نظرة صادقة أو جلسة مطولة مع صديق، هنا تظهر المفارقة، فنحن محاطون دائماً بالآخرين عبر الإنترنت، ومع ذلك يزداد شعورنا بالوحدة حين يغيب التواصل الحقيقي.
الاعتماد المفرط على المجتمع الرقمي يجعلنا نعيش تحت ضغط مستمر لتقديم صورة مثالية عن حياتنا، كل منشور أو صورة تصبح أداة للمقارنة، وكل إعجاب أو تعليق يتحول إلى معيار لتقدير الذات لأن من اعتاد على ذلك يصبح يتغذى على مديح الناس وكلامهم، وهكذا بدل أن يكون التواصل مصدر دعم يصبح ساحة للمنافسة والقلق.
طبعاً لا يمكننا العودة إلى الوراء، فالمجتمع الرقمي أصبح جزءاً من حياتنا الآن، لذلك التحدي الحقيقي ليس في رفضه، بل في التوازن وأن نستخدمه كأداة للتقارب لا كبديل عن العلاقات الواقعية، وأن ندرك أيضاً أن الصداقة لا تقاس بعدد المتابعين إنما بعمق العلاقة. إن المجتمع الرقمي ليس عدواً ولا صديقاً، بل هو انعكاس لطريقة استخدامنا له، فإذا استسلمنا له بلا وعي، سنجد أنفسنا أكثر عزلة من أي وقت مضى، أما إذا تعاملنا معه بحكمة، فقد يكون جسراً يربطنا بالعالم دون أن نفقد إنسانيتنا.
متابعات