سألنا كثيراً، كيف هي لغتنا، وكيف صارت فينا واكتسبناها، فتذكرت كثيراً كيف كان للقرآن الكريم نصيب كبير في تعليمنا حتى كبرنا، وكيف كانت مخارج الحروف لدينا تجود بتلاوة القرآن الكريم، وبيان فقه أحكامه وكيف تنطق الحروف كل حسب موضعه ومكانه، والأجمل من كل ذلك وما تعلق به قلبي منذ كنت يافعة هو سحر البيان، وعبق الجمال، وحسن الكلام، ورونق المعاني، وقوة الفهم، ودهشة التجدد، وكيف أن كل يوم وفي شأنك المختلف كتاب الله يخاطبك، تعلقت بتفسير آية، وكيف أن الانتقال من مفسر لآخر يجعلك في دهشة وتأمل وإعجاز لا يتغير كلما تعمقت وكررت نفس الآيات بل يسكن فيك ولا يرحل.
وكبرنا، ومازلنا نقرأ، ومع النضج صار وصول المعنى لأرواحنا مختلفاً، إن السحر الذي نتوارثه ونعيشه مع كل حرف ننطقه، وكل كلمة نقرؤها، وكل آية بما فيها من معنى وفهم هو في الحقيقة ارتواء لقريحتك، ومعرفة لحياتك، وإدراك لوجودك، ويقين بعظمة الخالق، وكيف أنه كتاب سماوي متجدد، قد تقرأ نفس الآية وفي كل مرة تقع منك موقعاً مختلفاً، حسب مكانك، وزمانك ومزاجك والموقف الذي تمر به والحالة النفسية التي أنت فيها سواء كنت بخير، أو تمر بأزمة وتحتاج من يطبطب على همك ويخفف فزعك. ومن وجهة نظري من أعظم نعم الله وعطاياه، أن تعيش في ربوع القرآن تتدبر مع الوقت آياته. تَجَرَّد من الانشغالات، واقرأ بتمهل وتمعن، غيِّر تعاطيك مع ختمة كتاب الله، وحين تلامسك آية أو يعتز فؤادك بها أعد قراءتها مراراً وتكراراً، وسترى كيف تتبدل من داخلك أشياء وتستجيب روحك للمعنى الذي وصلك.
إن لم تكن من أهل التفسير، فابدأ اليوم، اقرأ الكثير في تفسير الآيات التي تحبها، وابحث عن الكثير من معاني الحياة وتفاصيلها بين سطور القرآن، ستذهل من أن حياتك كلها ستدور هناك، وأن الطمأنينة والراحة في الكثير من الآيات التي مررت عليها سريعاً، ستتعلم سحر البيان، وقوة لغتنا ومعانيها، ستدرك قيماً، وتربية ربانية، ستتهذب روحك وتهدأ في شأن الدنيا وما فيها، ستدرك قيمة وجودك، وقيمة الحياة في كنف الله، ستتعلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنبياء وكيف أن في قصصهم عبرة، ليست مجرد روايات بل دورس وعبر، قِيْلت لك منذ زمن مضى، لكنها تحاكيك في زمنك الحالي.
ستدرك في تأنِّيك كيف أنك تستسلم لحالة من الروحانية والهدوء الذاتي، وأن ما تقرأه هو الغذاء الحقيقي لحياتك، كثيرة هي الكتب التي نبحث في جنباتها عن علاج، عن راحة، عن فهم عميق لماهية الحياة، وفي القرآن يتجلى كل شيء بسرد رباني، من رب السماوات والأرض، ستفهم تعاقب الليل والنهار، والرحمة والعذاب، ستدرك أن الله قريب، وأن مناجاته من خلال كلماته هي أعظم ما أهديت في حياتك، تأمل وتفكر، وتريث وكن رفيقاً تحسن رفقة كتاب الله.